رحلة اندماج لا تتوقف... كاريس بشار نموذجاً

أدهم حنا
الجمعة   2023/04/21
حققت منطق الترابط بين الفعل الفيزيولوجي والحالة الشعورية، وطبيعة الشخصية وقصتها
من الصعب أن تكون رحلة الممثل من فرقة فنية تُعنى بالرقص الشعبي، وهذا مُكرر في سياقات كثيرة لفنانين سوريين ومصريين وعالميين تحولوا من الفن الأدائي في الرقص، نحو فن التمثيل بوصفه أداء للنفس والجسد، أي أن عُري الذات والتباس الشخصية في التمثيل يتجاوز كثيراً الفعل الأدائي في الرقص. هذه هي المحطة الأولى لكاريس بشار، في الانتقال من الفعل الجسدي المهذب البحت في الرقص، نحو التباس الشخصيات والباسها للجسد وكأنها زيارة عميقة.

من هنا يكون نجاح كاريس إشكالياً في أدوارها، الرحلة الأولى التي قطعتها بمساعدة دريد لحام للخروج من الرقص نحو التمثيل جعلها احياناً تنسى جسدها، أو تتناساه، وكثيراً ما يظهر تركيزها على وجهها وصوتها في التمثيل، وكأنها تنزع في كل مرة ذاكرة جسدها الذي بدأ في الأداء الحركي والموسيقي وتلجمه عن التغير ضمن الفعل الاندماجي الدرامي والأدبي. الشخصية والعمل الفني التمثيلي هو نقل الجسد إلى تهذيب المخيلة والشعور وتضمين ذلك داخل حياة الجسد وحركته.

البداية في أوائل التسعينيات مع دريد لحام في المسرح الذي جذب لها أدواراً وصلت فيها لآخر التسعينيات مع سمعة جيدة، بدءاً من العمل مع ياسر العظمة وأيمن زيدان، في أدوار ذات طابع كوميدي، فكرست لها هذه الأدوار مساحة أظهرت من خلالها مواهب ناضجة وجيدة. والجدير بالذكر أنها عملت مع أكثر المخرجين إنتاجاً للأداء، هشام شربتجي، والذي يرسم لشخصياته أبعاداً تُتيح لها كوميديا الموقف وكأنها لحظة جنون وحرية. سلسلة "عائلة ست نجوم" حملت لها إرثاً لم يكن نجاحها فيه أمام كوميديين كأيمن رضا وباسم ياخور، شيئاً عادياً، لكن العمل حمل لها وجوداً ممتازاً في الشاشة، وما قدمه مسلسل "ست نجوم" لها، مثّل قدرتها على جذب الناس جراء حركتها وتناغمها مع أيمن رضا، ولو لم يكن أداؤها جيداً وكوميدياً في كل المواقف، إلا أن حرية الشربتجي  في الإخراج، أعطتها شكلاً استوعبه الناس فأحبوها بوصفها قادرة على أن تفعل الكثير، وصولاً إلى ياسر العظمة الذي جعلها أجمل صبايا الدراما، ثم أنضجها بالأدوار المركبة والمختلفة بالنسبة لعُمرها.

تنوع
الأهم في كاريس بشار تواجدها الدائم، أي أن الساحة الإنتاجية لم تتخل عنها يوماً، لم تعش صراعات البحث عن دور أو الوقوف خلف أحد ليُبرز قدراتها. التنوع في الشخصيات التي تقبل تجسيدها جعلها أقرب من الساحة المهنية. بالأصل، العمل الدرامي في سوريا له تقييم مختلف عن الفنان السينمائي، أي أن الكثرة الدرامية في الإنتاج جعلت كاريس تملك أدواراً كثيرة، ووصولاً إلى 2004 لم تعلق كاريس بشار في دور نوعي، إلا أن مسلسل "ليالي الصالحية" كشف قدراتها بالكامل، إذ تلبّست أكثر من حالة نفسية وجسدية، ولو بدا عليها أحياناً الارتباك في المشاهد التي تصاعد فيها حِسها الإدراكي والمظهري. بعض مظاهر ارتجافها أو تأثرها الانفعالي يبدو مشبعاً بالارتباك والمبالغة أحياناً، لكن تلك المشاهد نفسها تجعلك تعتقد تماماً بأن موهبتها تستأهل دوراً مركباً، وأن أثر وجهها وانفعالاتها في منحى تطوري، وتستطيع أن تجعل المشاهد يملك مشهداً لها يعلق في ذهنه، وللمخرج متعة في إبراز هذا.



مشاهدو الدراما السورية يتعلقون بالعمل. المُشاهد السوري، على عكس المصري، تملك ذاكرته الاسم الكامل للعمل، أي تتذكر اسم المسلسل، لا دور الفنان فيه فقط، خصوصاً أن نجوم المسلسلات السورية لا يتوقفون عن التمظهر في شخصيات جديدة، ويبدعون فيها ضمن ساحة كانت هوسية في الإنتاج الدرامي. وحينما تعلم أن الفنان قد عَلق في الذاكرة من مسلسلٍ ما، فهذا دليل مزدوج بأن الفنان امتلك نجوميته الحقيقية، مُرتبطاً بطبيعة ونوع المسلسل بوصفه جيداً أيضاً. لا يتمتع المشاهد العربي أو السوري بذائقة المَشهد، ولا بكاراكتر الفنان، لأن المُشاهد الحالي نسي الأداء المسرحي، وبالتالي يكون العمل بالمعيار الجماعي، أو يتقبل المشاهد الفرد-الممثل بوصفه بطلاً وحيداً، كما في الحالة المصرية. لكن بعض الأعمال السورية اقتسم الدور، وذلك بقدرة الكُتاب على تجسيد بطولة جماعية، ومعنى الدرامي الجماعي فيه من الحياة بوصفها تنوعاً وأكثر من فرادة متميزة وقادرة على تجسيد الدور داخل الحدث.

علاقة الكاتب بالممثل
وبخلاف أيضاً النجوم المصريين، قلما تشاهد ممثلاً ينخرط مع الكاتب في صنع معنى ما. يحيى الفخراني مثلاً، في تجربته السينمائية والدرامية، كان قريباً من الكُتّاب. أما في سوريا، فلا علاقة بين الكاتب والممثل، ولا حتى من الحيز الثقافي الفكري الدرامي. هناك آلية بسيطة في سوريا، كاتب جيد وشركة إنتاج. من هنا كان على المُخرجين أن يلتقطوا نجومية كاريس ويساهموا في انخراطها في أعمال سياقها جيد، ولا تمر ثلاث سنوات من دون أن تُحفظ كاريس بشار بوصفها ممثلة ممتازة.

في العام 2008، حملت كاريس بشار موهبتها لأداء ممتاز في عمل "ليس سراباً" في شخصية حنان. كان الدور مركباً، والطابع المهني البحت الذي استحوذته في الأعوام السابقة قد تغير تماماً، وانخرطت بشكل جيد في الشخصية، ولمع اسمها في مرحلة كان الصراع على أشده بين مجموعة فنانات سوريات، لا سيما  أنها قد كانت الفترة الذهبية للإنتاج الدرامي. أي أن كاريس لم تنفذ مهمة فقط داخل الدور، بل انتقل تمثيلها لأداء نوعي، كرسها في الدراما الاجتماعية على القمة تماماً. إذ حققت منطق الترابط بين الفعل الفيزيولوجي والحالة الشعورية، وطبيعة الشخصية وقصتها، أي العمل على منطق الشخصية وشعورها. وعادت بعدها إلى الأدوار المهنية، أي التي تكون فيها كاريس أقل قدرة على التجدد انفعالياً وسلوكياً، وتأخذ الدور بوصفه فعلا مباشراً.

لكنها، في كل مرة يرتبط نجاحها وشهرتها بدور ما، يكون النص فعالاً في داخلها. ميزة كاريس أنها تعلق في الأدوار التي تعمم فيها البطولات الجماعية، وحيث الحامل الدرامي محبوك بشكل روائي، ويحمل في تقانته بُعدَين: صدق القصة، وانتمائها لنوعية أدبية نفسية أصيلة. الميزة تكون في قدرتها على جذب القوة الإبداعية للعمل للظهور فيه، وكأنها أخذت من الرقص الذي احترفته في بدايتها دور الفرد داخل الجماعة، والنزعة التنافسية التي من الممكن فرضها والإبداع فيها.



...وصولاً لعامين رائعين في حياة كاريس بشار "قلم حمرة"، و"غداً نلتقي"، تجوهر أداؤها ولو بدا نمطياً أحياناً، لكنها ظهرت بقدرتين جديدتين، الأولى الأداء المريح، من دون إرتباك ونمطية في التعبير الجسدي أو الأدائي، والثانية التصاقية أفضل بالنص، أي النضج في التجربة الحياتية المُجسدة في النص، وهذا دور مشترك بين المخرج والكاتب أيضاً، هذا الفرق يعرفه الجميع، أن العمل الفني عمل تعاوني لا بدّ من تكريسه بذكاء وإبداعية مُعينة.

في السنوات الأخيرة، جسدت كاريس دوراً في مسلسل "ستيليتو"، وهو مُعرَّب من التركية، لم تستطع من خلاله توكيد أي شيء جديد، بل بالعكس ظهرت بأداء بارد، بل يحمل من السوء الكثير، وهذا إما لأنها لا تملك ثقافة فنية، وتورطت في عملٍ لا يملك مقوماً فنّياً أو إبداعياً بحكم رغبتها في التمثيل فقط، أو لأنها اعتبرت العمل مجرد شغل أو مهنة، من دون أي إلمام عميق أو مبدئي بقيمة المسلسل أو الدور الذي تلعبه.

عموماً لا يملك الممثل دوماً ما يكون مهماً أو عميقاً ليعمل من خلاله، لكن كاريس استطاعت النجاح في أكثر من عمل وكرست نفسها، كل عام، بعمل تظهر فيه بشكل جيد. عملها الأخير "النار بالنار" عمل جيد، وبالتأكيد نجحت فيه، لا بسبب طبيعة الدور المركب، لأنه يصور صراع الشخصية ضمن صراعات وثيمات تقليدية، لكنها تنجح كونها تستطيع من خبراتها السابقة أن تتوازن داخل الأدوار التي تكون فيها شخصية واقعية، أي أن خبراتها في قراءة النصوص لعمل اجتماعي تجعلها جيدة جداً في أداء الشخصية والانسياب داخلها.

ويمكن ملاحظة أمر سلبي واحد، هو بعض النمطية التي قد تجعلك تشاهد كاريس في الإحساس الإدراكي نفسه، في مواقف مختلفة، خصوصاً في حركة الرأس وارتجاف الصوت، شيء من هذا يعود لها وحدها، حِسها النفسي والجسدي عليه أن يحمل طابعاً متنوعاً أكثر. لكن، بلا أدنى شك، تُعتبر كاريس أفضل الممثلات السوريات بالمقارنة مع سلاف فواخرجي مثلاً، والتي تملك انطباعاً مكرراً ونظرات تقليدية لا تُشعرك أبداً بأنها تنساب مع النص أو تندمج فيه. تبقى كاريس في محاولاتها للاندماج في شخصياتها أحد أكثر الفنانات السوريات تألقاً.