"هردبشت".. فوضى الشرّ والتعاطف والحياة الحقيقية

مروة صعب
السبت   2023/04/15
كان مخططاً تصويره في "حي ماضي" بالضاحية، لكنه انتقل إلى الأوزاعي بعد سرقة المعدّات
قبل بداية العرض، تأخذك أحاديث الجمهور المُنتظر بداية "الفوضى" في الشاشة العملاقة، فيهمس الشاب في أذن صديقه: "حسين بعدنا منشوفه بحي ماضي.. هالشي بيشبهنا، شعبي". ثم يصمت ويتابع الفيلم، وعند نهايته، يهمس شاب آخر في أذن صديقته: "هيدي الموتسيك يلي بالفيلم لحسين بشوفه عليها دايماً"... تلك الأحاديث لا يمكن أن تمر بصورة عابرة من دون أن تعكس مدى قرب الشخصيات التي سنتناولها لاحقاً في النص بمن جاؤوا من ضواحي المدينة لمشاهدة ما لا يمكن تزييفه أو تجميله، لغة كانت أم أداء، ولولا الجنيريك في نهاية الفيلم لكانت ذاكرتنا عما شاهدناه بقيت عن جولة في حي من أحياء ضواحي بيروت قمنا بها من مقاعدنا في السينما وذهبنا على أقدامنا فوق سطوح "الأوزاعي" وإلى الشاطئ ثم الزواريب، فلا نرى الدماء من خلف الشاشة العملاقة بل نشمها ونربطها بيومياتنا من حيث أتينا، حيث الشر والفقر والموسيقى والموت والنجاة والموت مرة أخرى أو العقاب.

كل هذا وأكثر قدمه لنا المخرج محمد الدايخ على مدار ساعة ونصف الساعة في فيلم "هردبشت" الذي بدأ عرضه في الصالات في 13 نيسان الجاري.

يأخذنا الدايخ في جولة مع حياتنا اليومية، نحن أبناء الأحياء الشعبية، يعيدنا إلى حاراتنا الصغيرة، في الجنوب كانت أم في البقاع أو في ضواحي بيروت الشعبية. ومَن يعرف هذه الأحياء جيداً لن يفاجئه "هردبشت"، بل ربما للمرة الأولى، توثق الحقيقة في العلن. باستخدام تقنية التصوير باليد، handheld، في بعض المشاهد، نقترب أكثر من القصة وأحداثها التي في غالبيتها منقولة عن أحداث حقيقية، بمشاركة كل من الممثل حسين قاووق والممثل حسين الدايخ، وإلى جانبهما الممثلة القديرة رندة كعدي التي لعبت دوراً استثنائياً في الفيلم، إضافة إلى ثلة من الممثلين والممثلات من غابرييل يمين وفؤاد يمين ومحمد عبدو وماريا ناكوزي ومهدي الدايخ.

يحكي "هردبشت" إحدى القصص المهمشة في ضواحي بيروت، قصة حقيقية ما زالت تحدث كل يوم مع هؤلاء الذين تم حشرهم في القعر أو في لوائح المطلوبين أو تحت إِمْرة الزعماء. والفرق الذي لا يصلنا في غالب الأحيان، أن أحدهم يرفض أن يبقى في تلك الحفرة. "حسين"، الشخصية الرئيسة التي أداها حسين قاووق، تعكس الهامشية التي يعيشها أبناء تلك الأحياء بين السعي لتأمين لقمة العيش، وانسداد الأبواب أمام تلك الإرادة، فيلجأ الشاب إلى تجارة المخدرات. لا تبرير لممارسات الشخصية في بداية الفيلم، لكنك لا يمكنك إلا أن تتعاطف معها! وإن صح التعبير، ربما أراد الدايخ، تقديم حسين بدور antihero أو البطل المضاد، فافتقرت شخصيته إلى الصفات البطولية التقليدية، فهي تُغضب العامة، لكنهم يتعاطفون معها ويتمنون لها نهاية سعيدة. تختار الشرّ لأنك ترى أن، هذه المرة، الظروف هي التي أنجبته، وليست الشخصية هي التي تحمله.


لماذا أحب الجمهور، حسين؟ ولماذا تعاطفنا مع شرّه؟
في مقالها "The Sympathetic Villain" (الشرير المتعاطف) تقول الروائية تِس كولينز: "إذا كنت تخشى كتابة قصة تقليدية مُبتذلة (كليشيه)، فما عليك إلا أن تتخيل القصة من وجهة نظر الشرير لتخرج بذلك من التنميط". وفي "هردبشت" لم يكن "حسين" وحده شريراً، حتى والدته "أم حسين" قتلت أيضاً! "زوزو"، العامل الصغير انتفض على رب عمله، رفض شره فقابله بشرٍ أكبر وقتَله! "هردبشت" ملحمة سينمائية تحاكي واقعنا كما هو، لا تجمّله! والعنف الآتي من الأعلى، سيولّد عنفاً مضاداً من الأسفل، حقيقة نجهلها حين نحاكم الأفراد من دون أن ندخل في تفاصيل حياتهم قبل أن نرميهم إلى المقصلة الإجتماعية والتهميش. لذلك كل ما حملته شخصيات الفيلم من شر، تقبلناه، لأنها كانت حقيقية وردود أفعالها حقيقية، في قبحها وغضبها وبكائها وثورتها أيضاً.

ولا ريب في أن المسألة هنا أعمق من أن توصم بالشر أو تُصنّف الأدوار، لكن قبلنا هناك من فعلها، وحكم على تلك الفئات المهمشة من دون أن يسأل عما أوصلها إلى هنا. لا يمكن أن تفصل "هردبشت" عن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في لبنان، لذلك لا يمكن الاكتفاء بالحديث عن الفيلم كقصة أو دراما، ربما لأن جرأته اللاذعة تضعك بعيداً من تفكيكه كحالة درامية، بل كحالة اجتماعية.

أدخل الدايخ المُشاهدين إلى منزل "الأزعر"، فرأينا خوفه منا قبل أن يخيفنا منه، ولو أننا سنضطر إلى حَرق بعض المشاهد لا بد أن نستشهد ببعضها. هذه المرة، عرفنا لماذا دخلت عائلة وأطلقت النار في المستشفى. لا يشجع الدايخ على استخدام السلاح المتفلت، بل يرينا لماذا ينتهي بابن العشرين عاماً مشهراً مسدسه وهو يطلب إدخال شقيقه النازف إلى المستشفى، ونرى لماذا يلجأ الشباب من تلك الفئة إلى الإتجار بالمخدرات والقتل إحياناً.


في الفيلم هوامش كثيرة لا يمكن حصرها في مقال واحد، ولعل المشهد الأخير هو لب الحكاية، ثوانٍ تختصر ما تنظر له الدولة دائماً، منشغلة بالقشور تتجاهل أصل المشكلة. تحاكم الفقير على ثورته ضد الظلم وتتجاهل القاتل، فما بالك لو كان الإثنان شخصاً واحداً. لذلك يضحك حسين في النهاية، لنبكي نحن على حالنا في عالم موازٍ، وكي لا نختبئ خلف أقلامنا، في عالمنا جميعاً في هذه البلاد.

قد يصعب على الجمهور تقبّل الممثل حسين قاووق في غير الدور الكوميدي، ويمكن ملاحظة ذلك في ضحكاتهم أثناء عرض المَشاهد الأولى من الفيلم، وأيضاً في عناوين بعض المقالات التي وصفت الفيلم بـ"الكوميديا السوداء" والتي رفضها المخرج محمد الدايخ في فقرة الأسئلة مع الجمهور التي تلت عرض الفيلم، وشدّد على أن الفيلم درامي عن واقع يضحكنا أحياناً لكنه بعيد من الكوميديا السوداء. وأضاف أن انتقاله من المسرح إلى التلفزيون هو طريق رسمه لاستقطاب جمهوره إلى السينما. يؤكد الدايخ أنّ "هردبشت" سيكون آخر الأعمال التي تعكس صورة البيئة التي كبر فيها، وهو يطمح أن يُنظر إليه كفنان لا تقتصر أعماله على بيئة محدّدة أو موضوع واحد. وقد يصعب على الجمهور التمييز بين شخصيتي "علوية" و"حسين" في "هردبشت"، إلا أن الفارق واضح رغم انتماء الشخصيتين إلى البيئة نفسها. يعلّق الدايخ على الفرق قائلاً أنّ "علوية" كان بسيطاً كاذباً مطبّعاً مع الحياة في ذلك المكان، أما "حسين" الذي يبدو "مدعوكاً بالحياة" فيرفض البقاء والخضوع. والخلاصة، بعد هذا الدور، يمكن النظر إلى القاووق بأنه ممثل شامل، على جمهوره السفر معه من حالة إلى أخرى، والاستعداد للإنخراط فيها.

"صوّر الفيلم في 16 يوماً فقط"، يقول الدايخ لـ"المدن". كان من المخطط تصويره في "حي ماضي"، لكن التصوير نُقِل إلى الأوزاعي بسبب استيلاء جهة مجهولة على المعدّات، ومنعهم من استكمال التصوير. واجه الفيلم الكثير من التحديات، بداية من إنتاجه في ظل عدم اهتمام المنتجين بهذا النوع من الأفلام في لبنان، واهتمامهم أكثر بالأفلام التجارية، حتى تبنّاه المنتج أمير فواز، إضافة إلى المشاكل مع الموافقة على النص من قبل الأمن العام وتحديداً مع بعض الجهات الدينية، بحسب الدايخ.