"الدولة والمجتمع في مصر الحديثة"..كيف نميزهما عن النظام؟

شادي لويس
السبت   2023/04/01
عمرو عادلي
استناداً إلى كتاب "مصر: دولة متثاقلة ومجتمع قلق"، الصادر بالإنكليزية عن دار نشر جامعة كولومبيا، يقدم عمرو عادلي وناثان براون خلاصة عملهما المشترك إلى القارئ العربي، في كتاب "الدولة والمجتمع في مصر الحديثة". بدلاً من الترجمة، قام الباحثان المتخصصان في العلوم السياسية بإعادة كتابة لإصدارهما السابق، بشكل موجز وأكثر تبسيطاً، بغية توسيع دائرة التلقي وتجسير المسافة بين الدوائر الأكاديمية والمجتمع موضوع الدراسة.

يطمح الكتاب إلى إعادة رسم خريطة المفاهيم والأطر النظرية التي حكمت فهمنا لمصر الحديثة، وذلك عبر إعادة تأطير الجدل حول القضايا المركزية والرجوع إلى جذورها التاريخية. ولتحقيق ذلك، يتفرع الكتاب في مسارات ثلاثة، يرصد أولها تطور الدولة في مصر بوصفها أعلى صور التنظيم السياسي، والثاني ينصبّ على المجتمع وتحديثه، أما الأخير فمعنيّ بالاقتصاد السياسي في مصر ومساره التنموي.

حين يتعلّق الأمر بالدولة، يتم تمييزها بوضوح عن النظام السياسي، فلكل منهما مساراته التاريخية الخاصة المستقلة عن الآخر، وإن تقاطعت أحياناً كثيرة. ولا يُنظر إلى مراحل تأسيس الدولة أو هندسة مؤسساتها على أنها عمليات غائية وقصدية، تقف وراءها أنظمة سياسة أو مشخصنة، بل عمليات تراكمية وفي اتجاهات أحياناً عكسية، وتحكمها لائحة محتشدة بالفاعلين، لهم أهداف قصيرة المدى في معظم الأحيان، وقد تكون لها نتائج في المدى الطويل لا تتطابق بالضرورة مع النوايا. وبهذا لا تنصبّ سردية الكتاب على أنظمة تشكّل الدولة، بل على العكس ترسم صورة لمؤسسات دولة واسعة وتتمدّد باستمرار، وبعضها يتمتّع باستقلالية نسبية، وتسعى الأنظمة المتعاقبة للسيطرة عليها، فتنجح أحياناً وتفشل أحياناً أخرى.

لكن، حتى في حالة نجاحها لفترات طالت أو قصرت، فإن قبضة النظام السياسي على الدولة، لم تكن أبداً مطلقة. إذاً، هل الدولة المصرية قوية؟ تأتي استجابة حاسمة، بأنه لا خلاف على مسألة قوتها بل على مدى كفاءة مؤسساتها.

لا أحكام قيمة في ما يخص المجتمع، أي لا حاجة للتصدي لأسئلة تتعلّق باكتمال عملية التحديث أم لا. هنا أيضاً، نتتبع مساراً من التبدّلات والانقطاعات والارتكاسات والاستمرارية، يبدأ بأفول مؤسسات المجتمع التقليدية، مثل نظام الطوائف الحرفية والأشراف ونقاباتهم، ومن ثمّ نشوء المؤسسات الأحدث، من أحزاب ونقابات وأندية وحركات اجتماعية وغيرها. وكما يكون التمييز بين النظام والدولة عصياً في بعض الأحيان -وهنا يعتبر الكتاب الفترة الناصرية نموذجاً لتماهي الإثنين- فإن الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع أيضاً يمكن أن تتعرّض للمحو بطريقة مشابهة. وكذلك تقدّم حقبة ناصر مثالاً على محاولة الدولة فرض سيطرتها على المجتمع، ممثلة في ما يصفه الكتاب بالدولة الكوربوراتية، أي مجموعة الترتيبات التي تنشئ فيها الدولة هيئات محدّدة أو ترخصها كي تنظّم وتضبط القطاعات المختلفة في المجتمع.

مبكراً، يقر الكاتبان بأن الجدل حول المصطلحات ليس مجرد حجة نظرية بل هو تقدير سياسي بالضرورة، فكل مصطلح مشحون بالدلالات. ويمكننا إضافة أنّ كل اصطلاح يحمل بالضرورة ميلاً أيديولوجياً. قد تظهر أطروحات الكتاب متموضعة في مساحة متجاوزة لتقسمية اليمين واليسار، فهي مؤسسة على نقد أطروحات وتفسيرات من الطرفين. بل وأحياناً تستخدم المصطلحات بمعانيها المزدوجة، على سبيل المثال يستخدم مصطلح "استغلال" بمعنيَيه في الاقتصاد: الليبرالي والماركسي معاً. ومع هذا، فإن فرضيات الكتاب الأساسية تميل بشكل كبير نحو التنظيرات الليبرالية. جلياً يظهر ذلك في توصيف المجتمع، سواء في معاني "المجتمع الأهلي" أو"المجتمع المدني"، فلا ذكر للطبقة على الإطلاق، وبشكل عام تبدو مؤسسات المجتمع المختلفة جذرياً، مثل نقابات العمال والأندية أو الغرفة التجارية للمستثمرين وكأنها متشابهة نوعياً، أو علاقاتها بعضها ببعض أو بالأنظمة الحاكمة هي علاقة "تفاعل". ثمة اعتراف بالتفاوت بينها في علاقاتها بالسلطة، لكن باعتبار ذلك التفاوت تفاوتاً كمياً، لا يتعلق بالكيف.

في القسم الثالث المخصص للاقتصاد السياسي للتنمية في مصر، يتم تفكيك الفرضيات الأربع لتعثر التنمية: العوامل الخارجية من استعمار واضطراب إقليمي، وفرضية الاقتصاد الريعي، والعامل الديموغرافي ممثلاً في الزيادة السكانية، وأخيراً عوامل السلطوية والفساد المتعلقة بالنظام السياسي. ويعيدنا ذلك إلى ثنائية الدولة والمجتمع، فالتنمية مسألة سياسية في المقام الأول وتستند إلى ترتيبات مؤسسية وسياسات عامة تشمل أشكال التفاعل على مستوى الاقتصادي الوطني مع الفرص والتحديات التي يفرضها السياق الخارجي عالمياً وإقليمياً. وفي غياب عنصر الطبقة الاجتماعية من التحليل، يظهر بحسب مؤلفيّ الكتاب، أن تعثّر مسار التنمية أو النسق الرأسمالي غير التنموي في مصر يرجع إلى افتقاد الدولة إلى حلفاء اجتماعيين منظمين بالعدد الكافي، أو إلى غياب التنسيق بين الدولة والفاعلين الاقتصاديين في المجتمع.

بالفعل يزعزع الكتاب الكثير من الفرضيات والنظريات الراسخة بخصوص تاريخ مصر الحديث، وإن لم يقدم بالضرورة بدائل متماسكة لها، إنما يدفعنا إلى إعادة فحص ومراجعة ما نظن أننا نعرفه، وأيضاً وعلى الأغلب من دون قصد، يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى تجريدات مثل الدولة والمجتمع، وإن كان يمكن حقاً الفصل بينها.

(*) "الدولة والمجتمع في مصر الحديثة: رد اعتبار وإعادة نظر"، دار المرايا في القاهرة، 2023.