تهذيب "رولد دال".. وسوق الحساسية الجديدة

شادي لويس
السبت   2023/03/04
كيف لكلمة "سمين" أن تكون مثار نقاش وطني؟
كيف لكلمة "سمين" أن تكون مثار نقاش وطني؟ وأن يستدعي تعديلها في قصة للأطفال تعليقاً من رئيس الوزراء البريطاني والمكتبة الوطنية في سنغافورة؟ مؤخراً كشفت جريدة "ديلي تلغراف"، أن دار نشر "بوفين" قامت بمراجعة وتنقيح مطبوعاتها من مؤلفات الكاتب البريطاني رولد دال، وفي سياق تلك العملية حذفت وعدّلت عبارات رأتها تحمل تمييزاً أو إهانة للأقليات، وأعادت صياغة مقاطع تتعلق بالهيئة الجسدية والصحة العقلية والعنف والجندر والعِرق.

في "تشارلي ومصنع الشوكولاته"(الصادرة للمرة الأولى العام 1964)، لم يعد الطفل أوغست غلوب سميناً بل هائلاً، وعلى المنوال ذاته فإن السخرية من النحافة حذفت في مؤلفات عديدة. أما السيدة تويت في قصة "آل تويت" فبقي وصفها بالبغيضة من دون حذف، أما القبيحة فلا. وبشكل أكثر تدقيقاً فإن كلمات مثل "رجال صغار" أعيدت صياغتها لتناسب لغة غير محددة الجنس، فصارت "أناس صغار"، وحلّت "امرأة" بدلاً من "أنثى". وفي قصة "الساحرات"، فإن فقرة تشير إلى صلع الساحرات أسفل شعرهن المستعار أضيفت إلى نهايتها جملة جديدة شارحة: "هناك الكثير من الأسباب الأخرى تجعل النساء ترتدين الشعر المستعار ولا يوجد خطأ في هذا بالتأكيد".

استدعت تلك التعديلات تعليقاً من رئيس الحكومة البريطانية، ريشي سوناك، استنكر فيه ما اعتبره رقابة بأثر رجعي على الكلاسيكات. وعلى خطوط التراشق بين اليمين واليسار، تم سحب المسألة التحريرية إلى ساحة المعترك السياسي. وقبل أسبوع، وفي خطاب عام، شرع رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون في ترداد أغنية "أوبا لومباس" إحدى أغاني "تشارلي ومصنع الشوكولاتة"، مؤكداً أن لا شيء يمكن أن يوقفه عن استخدام الكلمات الأصلية لمؤلفات دال. بطريقة فكاهية، يوظف جونسون حنيناً تحمله أجيال من البالغين لذاكرة طفولتها، لتظهر الصوابية السياسية وكأنها تفسد بحساسيتها المفرطة ذلك العالم المتسم بالبراءة. وبوجه عام تظل لعبة الحنين للماضي أثيرة لدى المحافظين، وبالأخص في مواجهة إعادة القراءة/الكتابة، فثمة عالم نعرفه عرضة للخطر، ويبدو فقدانه بلا رجعة تهديداً قائماً. وبتلك الطريقة يغدو الاستبسال في الحفاظ على الماضي، أياً كانت صورته، قيمة في ذاته.

"أحقاً... لن نستطيع استخدام كلمتي سمين وأنثى!"، يصف الروائي سلمان رشدي، دال، بالمتعصب، لكنه يستنكر في الوقت ذاته ما أقدمت عليه دار النشر. وبلا شك فإن دوافع رشدي على وجه الخصوص تختلف جذرياً عن دوافع السياسيين، فحياة عاشها تحت تهديد دائم بالموت بسبب الكلمات، تبرر حساسية مفرطة وعكسية ضد كل دعوات تشذيب الأدب وتنقيح اللغة بدوافع أخلاقية، مهما كان حسن النية الذي يقف وراءها. فإن فُتح الباب أمام منطق البتر والمحو، فلا ضمانة على إمكانية إغلاقه في وجه ضيق الأفق والتعصب مستقبلاً.

تعي دار النشر الأميركية، المسؤولة عن تركة دال الأدبية، أنّ سوقاً للحساسية الجديدة تتوسع بشكل هائل، وهكذا تضمن التعديلات في حد ذاتها غسيلاً لسمعة دال، المعروف بمعاداته للسامية ومواقفه الشخصية شديدة التعصب، بل وتبدو عملية التحرير استراتيجيةً ناجحة لتسويق إصداراتها بين طيف واسع من الأسر الشابة الميالة نحو الصوابية السياسية أو المتمسكة بها بشكل عقائدي، وهي الفئات التي لم تكن لتُقبل على مؤلفات دال في ظروف أخرى.

مع هذا كله، ووجاهة مبررات التحسس من صور الرقابة، ألا تبدو ردود الأفعال المستهجنة لتعديلات غير جوهرية في مؤلفات دال مفرطة بالقدر نفسه من الحساسية التي حفزت تلك التعديلات؟ فعمليات مراجعة اللغة بمعانيها الواسعة والمتعددة، هي عملية روتينية داخل غرف التحرير ودور النشر. بل إن مؤلفات شكسبير، وهي النموذج القياسي لمعنى الكلاسيكي، خضعت لطبقات مكثفة من الإضافة والحذف والإحلال، ليس بأيدي المحررين والناشرين وحدهم، بل أيضاً بناء على أداءات الممثلين في العروض المسرحية وإعادة صياغتهم لعبارات ومقاطع من النصوص الأولى.

فقط في القرن التاسع عشر، ظهر التصور الرومانسي عن المؤلف، ولم تعد النصوص نتاج عمليات من التراكم الجماعي والتاريخي، بل منجزات عبقريات فردية، نوع من الوحي تميزه سمات الأصالة والفرادة. وعلى الرغم من مفارقة تلك الصورة للواقع العملي لعالم النشر، فإنها كانت ناجحة تماماً في رفع النص الأدبي إلى مقام المقدس. فهو منتج المرة الواحدة، أي يخرج إلى الوجود بشكل مكتمل ونهائي، بحيث يكون المساس به نوعاً من التحريف.

واستجابةً لردود الأفعال الغاضبة، تُدخل دار بوفين تعديلاً على استراتيجيتها التحريرية- التسويقية، معلنة عن توفير النسخة الأقدم من مؤلفات دال كما هي، جنباً إلى جنب مع النسخ المعدلة. هذا يرضي الجميع، فهناك دال الأصيل، ودال الصائب سياسياً.