لماذا يكتب الروائيون؟ (3/1)

فوزي ذبيان
الجمعة   2023/03/17
إيزابيل الليندي: أبثّ نفسي، أخباري المتوارية، أخباري التائهة
لدى انتهائي من قراءة بعض الروايات، غالباً ما يستبدّ بي السؤال التالي: لماذا يكتب الروائيون؟ وهو السؤال الذي كرّرته على نفسي بإلحاح مؤخراً لحظة انتهائي من قراءة "حفلة التيس" لماريو بارغاس يوسا.

بالنسبة إلى هذا الكاتب البيروفي، الكتابة أفضل طريقة للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يبّثه بإصرار في "رسائل إلى روائي شاب". أما في "الكتاب وواقعه"، فهو يشبّه الكتابة بعملية تعرٍّ عكسية يخفي عبرها الكتاب عريه بواسطة الكلمات إزاء فجاجة العالم، أما الخيال الروائي فهو بالنسبة إلى يوسا ردّ فعل الروح ضد مثالب الحياة ورعونتها.

من النافل أن أسباب الكتابة تتعدّد لدى التوغّل في مآرب أهل الكتابة وناسها. فبالنسبة للبعض، الكتابة هي آلية يستر الكاتب بها أفكاره، وثمة في المقابل من رأى في رصف الكلمات ودفقها وسيلة لبثّ العالم حقيقة ما يعتمل في دواخل الأذهان ومتاهاتها، وإن كان للأسلوب في هذا السياق حصة وافرة في بلورة أسباب الكتابة. فبالنسبة إلى الناقد الفرنسي رولان بارت، يعكس أسلوب الكاتب بعمق الجانب المظلم من أناه. فالأسلوب الكتابي، يقول بارت، يقوم على اقتران تام بأسرار الدم والغرائز، وصولاً إلى قوله إن الأسلوب هو الزمن السرّي للكاتب، هو التاريخ المنسي والدهر المتواري... وعلى حدّ قول الشاعر العربي: لكل امرىء من دهره ما تعَوّدا!

لعلّ موقف الروائي الليبي إبراهيم الكوني، من فعل الكتابة، هو في بعض مضامينه صدى لموقف الفيلسوف الفرنسي الراحل. فبالنسبة لروائي الصحراء، الكتابة هي وسيلة الإنسان للخوض في عتمات ذاته، إنها البوصلة التي يستهدي بها إلى أناه المفقودة، إلى لوح طينه الضائع. ففي "الربّة الحجرية" يبثنا الكوني بالتالي: "لا يخرج المخلوق من متاهة الضياع إلا إذا عثر على لوح الطين الضائع..." أي، إلا إذا عثر على نصّه. إن الكتابة في هذا السياق هي فعل تعرّف على الذات بعد رحلة ضياع مؤرقة، وربما تجربة الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، هي الأكثر توهجاً في هذا الإطار. تقول الليندي في إحدى المقابلات إن روايتها "بيت الأرواح"، هي في الأصل رسالة خطّتها بغية إرسالها إلى جدّها المحتضر، بيد أن كلمات الرسالة أخذتْ بالتكدّس "لألقى نفسي أبثّ نفسي أخباري المتوارية، أخباري التائهة...". فالكتابة بالنسبة لإيزابيل الليندي هي بمثابة جمع شتات الأنا من غياهب التاريخ والأسطورة والجغرافيا وباطن الأرض حيث عيون الأسلاف لا تكفّ عن اختلاس النظر والتحديق في مصائرنا... قد يكون الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو تجاوز الكوني والليندي حيال علاقة أنا الكاتب بفعل الكتابة. فالكتابة بالنسبة إلى صاحب "الفسكونت المشطور" هي تأسيس لكينونة الكاتب في الوجود، وكأني بكالفينو في هذا الصدد بمثابة صدى لأسلافه ممن قالوا في القرون الوسطى Scripo, ergo sum ... أنا أكتب، إذن أنا موجود.

عندما سُئل الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: لماذا تكتب؟ ردّ بالقول: كي أكون وفياً لمخيلتي. قد يكون بيت المخيلة في فعل الكتابة مصنوعاً من نسيج الوهم، وقد يكون صنيعة لا تناهي الذاكرة، وصولاً لذاكرة الطفولة المتخثرة في قعر لا نعرف له قراراً، وبالتالي، ليس من باب العبث أن يختزل الأرجنتيني الآخر ارنستو ساباتو كل أسباب الكتابة كمحاولات محمومة لإلقاء القبض على الفيض الخفي للذاكرة، على تلك الطفولة المتلاشية. وهو ما يفصح عنه الروائي الإنكليزي جورج أورويل، ليس في الضاحية الجنوبية، إنما في نصّ له بعنوان "لماذا أكتب". يقول أورويل: "ككاتب، لست قادراً ولا أرغب في أن أتخلى... عن منظور العالم الذي اكتسبته في طفولتي"، والكتابة بالنسبة لصاحب "1984" هي في بعض سياقاتها أقرب إلى فعل الغريزة، بل تراها في بعض تجلياتها بمثابة دفع شيطاني لا سبيل إلى ردّه... ومَن قال أنه ليس للأطفال شياطينهم؟!


(جورج أورويل: الكتابة فعل الغريزة)

للشيطان على كلّ حال حصة وفيرة في ترصّد أسباب الكتابة. وبالحديث عن الشياطين، لا يتردد الإسباني ميغيل دي أونامونو، في مقارنة تطوّر عملية السرد في ذهن الكاتب وخياله بتدخّل الشيطان في عالم الآدميين. وإذا ما ااختلسنا النظر لبرهة إلى عالم الإغريق القديم، لوجدنا سيمونودس العارف - كما كانوا يلقبونه - يصيح في وجوه الناس في أروقة المعابد وساحاتها بالتالي: إن الشيطان هو أبهى مَنْ تغنّى بالإنسان من خلال إنسان آخر، أي من خلال من يمتلك حرفة الكتابة.

...ولنعد إلى القرن العشرين.
غالباً ما يكتنف أذهان بعض الكتّاب، الغموض حيال الأسباب التي تدفع بهم للكتابة، فترى الواحد منهم ينساق باستسلام للقول: لا أعرف لماذا أكتب.

لا أرى أن عبارة "لا أعرف لماذا أكتب" تستبطن بالضرورة الجهل، فالعبارة ربما تستدعي الغياب ليكون فعل الكتابة عندئذ محاولة مستميتة لملء الفجوة مترامية الأطراف والممتدة بفظاظة بين الحضور والغياب، بين الآن وما قد مضى، بين ما جرى وما لم يجرِ بالفعل. أيضاً وأيضاً، لا بدّ للمرء أن يسلس قياده للشيطان أو لربّ من نمطٍ آخر أثناء وقوعه في لجّ الكتابة. فالغموض جزء لا يتجزّأ من الدوافع التي تودي بالمرء لأن يتبخّر عبر شخصيات رواياته، والأمر في بعض وجوهه هو بمثابة تخاطف النظرات بين الحاضر والماضي، بين الحقيقي والخيالي، بين الرغبة وموضوعها، أي بين الرواية وتلك الرغبة الجارفة بكتابتها.

ثمة مَنْ رأى في الكتابة فعل مثابرة لا تني الذاكرة تجترحه، بل لا تني تحفر الحاضر عبره وصولاً إلى ما بعد كل حاضر ممكن. عندما سُئل ماركيز، أو "غابو" كما لقّبه أصحابه،  عن ذلك الشيء الذي كان كامناً في قعر ذاكرته إبّان كتابته "مئة عام من العزلة"، ردّ بالقول أنه الأبد..."كان يمكن أن تمتدّ فترة كتابتي لمئة عام من العزلة إلى الأبد".

أما خبيرة الوقت، بحاضره وماضيه ومستقبله، وأنا أتكلم عن الإنكليزية فرجينيا وولف (وليعذرنا جيمس جويس ومارسيل بروست لضيق المساحة)، فقد شبَّهَتْ فعل الكتابة بالسير في حجرة مظلمة إلا من مصباح متذبذب. بينما ألغت الكندية مارغريت آتوود، المصباح عن بكرة أبيه، لتقول في كتابها "مفاوضة الموتى/ تأملات حول الكتابة": "إن القصة تكمن في محض العتمة... وجلّ ما علينا نحن الكتّاب تعلّمه هو مفاوضة الموتى حيث الظلام اللانهائي". تراني على تماس قوي مع هذه العبارة الرائعة لآتوود، وصراحةً أقول: أنا فشلتُ في تجنّبها أثناء انكبابي على "القبلة الأبدية" (رواية لي ستنشر قريباً).

قد لا تكون الرواية محض نصّ يقوم على رصف الكلمات، فهي في بعض وجوهها أقرب إلى فعل المناشدة كي يأخذ أحدٌ ما بيد الكاتب، يد الروائي المبتورة. فبالنسبة إلى الروائي الإنكليزي غراهام غرين، الكتابة هي في بعض نواحيها واقعة بيولوجية قد تتحوّل إلى دمّلة ترهق جسد الكاتب إذا لم تتوافر لها سبل الخروج من الأوردة والشرايين والمسام والأسنان والأظافر، وهذه الكلمات الخمس الأخيرة أنا من تعمّد زيادتها على موقف صاحب رائعة "حفلة القنبلة".


(كونديرا: ينبع غباء الناس من كونهم يمتلكون أجوبة عن كل شيء)

في حوار بين فيليب روث وميلان كونديرا، حول رواية "كتاب الضحك والنسيان" – ولكم أن تتخيلوا هذا الحوار – يسأل روث كونديرا: "هل تعتقد أن نهاية العالم وشيكة؟"، ليرد هذا الأخير بالقول: "يعتمد ذلك على ما تعنيه بكلمة وشيكة". يوضح كونديرا في هذا الحوار/ المصارعة أن الكتابة هي استدعاء للمسألة التالية: النظر إلى العالم بوصفه سؤالاً على الدوام، وهو ما صاغه صاحب "خفة الكائن التي لا تُحتمل" على الشكل التالي: "ينبع غباء الناس من كونهم يمتلكون أجوبة عن كل شيء". ولعله من الجدير الإشارة إلى أن لروث عمل رائع بعنوان Indignation ترجمه للعربية خالد جبيلي وصدر عن منشورات الجمل تحت عنوان "سخط".

لست أدري إذا ما كان الوقت متاحاً لاستكمال كتابة هذه المادة عن الكتابة، إذ ثمة هزّة أرضية أرختْ بثقلها فوقي وأرختْ القلم من بين أصابعي أثناء قيامي بالكتابة. وصدّقوني أني لست بكاذب على الإطلاق حيال هذه الملاحظة الأخيرة، على الرغم من احترامي لرأي الروائي المكسيكي كارلوس فوينتوس الذي يرى في الكتابة كذباً، إنما من نمط آخر، كذب يمكن موضعته حسب فوينتوس تحت لافتة خطّها دوستويفسكي يوماً في "دون كيخوتة" لسرفانتس... قال دوستويفسكي: إن كاتب دون كيخوتة أنقذ الحقيقة بواسطة الكذب.

لست أدري إذا ما كان الوقت سيمهلني لأن أبثّ بعض ما قاله البرتو مورافيا على سبيل المثال، عن الكتابة... الله خلق العالم، قال مورافيا، لكن الشيطان هو من خلق الكتابة...
هزة أرضية أخرى، سأتوقّف الآن.

(*) ملاحظة: المادة التالية ستكون بعنوان "لماذا نقرأ الروايات؟".. مع الأمل بعدم وقوع هزة أخرى من أجل إتمامها.