"قبل زحف الظلام"... حنين إلى سنوات الجمر المغربية

شادي لويس
السبت   2023/03/25
قبل زحف الظلام
من اللحظات الأولى ندرك أننا أمام فيلم داخل فيلم، كاميرا مهتزة والعدسة قريبة إلى الوجوه أكثر من اللازم، الأزياء وتصفيفات الشعر من موضة السبعينيات، يتجول صناع فيلم في الشوارع ليسألوا الجمهور المغربي عن رأيهم في السينما الوطنية وتوقعاتهم منها. في المشهد اللاحق تظهر صورة ثابتة لأفيش فيلم أجنبي ويقف أمامها طفل أسمر البشرة، ثم تبرق عبارة مكتوبة بالخط الأبيض: "أحداث بلا دلالة"، وبعدها سلسلة من المقاطع المصورة والفوتوغرافيا. 

قضى المخرج المغربي، علي الصافي، عقداً من الزمن وهو ينبش في الأرشيف، حتى يستخرج مادة فيلمه الوثائقي "قبل زحف الظلام" (2020). كولاج الصور والأصوات من مغرب السبعينيات، عقد سنوات الجمر كما يطلق عليه، يظهر على السطح وكأنه تداعيات حرة لذاكرة مشوشة وغير مكتملة ومحتشدة بالوقائع. المحاولة المنهكة للإمساك بخيط للسرد تقود المشاهد سريعاً نحو الاستسلام للتيار البصري المتدفق على الشاشة. وفي الخلفية تصدح مقاطع متسارعة من موسيقى الجاز والروك يتخلًلها غناء الفرق المغربية المميزة لتلك الحقبة. لكن وسط صور الغرافيتي على المباني ومقاطع الاحتجاجات العمالية والطلابية، والفواصل من لوحات مدرسة كازابلانكا التشكيلية مع مقاطع من أفلام روائية مغربية، تبدأ في الظهور بشكل خافت سرديتان متوازيتان للأحداث. مجموعة من السينمائيين المغاربة، من بينهم المخرج مصطفى الدرقاوي، يعملون على فيلم بعنوان "أحداث بلا دلالة"، أمّا الخط الثاني فيسرد فيه سجين سياسي سابق نشاطه في منظمة ماركسية سرّيّة، وثم رِحلة طويلة من الهروب من الأمن والمطاردة والاختباء. 


لا يتلاقى الخطان، لكن في المساحة البيضاء بينهما نرى وقائع أعوام الرصاص، حظر اتحادات الطلبة ومحاكمات التنظيمات اليسارية والمسيرة الخضراء. تظل الوقائع السياسية مجرد إيماءات، عشرات منها وربما مئات، فيما الصورة هي المركز. في أحد المشاهد، نرى صوراً متتابعة لسجينات، ومن بينهن نلمح صورة لسعيدة منبهي، صورة واحدة توجز قصة سجنها وتعذيبها ومحاكمتها ومن ثم إضرابها عن الطعام حتى الموت. مئات القصص الأخرى تروى تلميحاً، وقد لا تعني شيئا ً للمشاهد، ربما هي صور وأحداث بلا دلالة لشيء حقاً. إلا أنها تظل وثيقة شاهدة على أحد ما، قد لا نعرفه يقيناً لكن نشعر بثقله.

بالطبع ثمّة حنين إلى عقد السبعينيات، فعلى الرغم من القمع السياسي والرقابة على كل ما هو فنّي، حينها بدا وكأن كل شيء ممكن وقابل للتحقق، من الثورة حتى إنتاج سينما وطنية تجريبية. يسعى علي الصافي لتوثيق ثقافة جيل ما بعد الاستقلال وموضعة نفسه داخل أجيال السينما المغربية. وفي تلك المهمّة، لا يتعامل بالضرورة مع مادته بوصفها تاريخاً، بل وكأن التاريخ على شاشة السينما يأخذ هيئة في نصف المسافة بين الحلم والكابوس.

في مشهد عجائبي من فيلم آخر للمخرج مصطفى الدرقاوي، بإسم "عنوان مؤقت"، نرى الفنان التشكيلي المغربي فريد بلكاهية وهو يستيقظ من وسط حلم على مشهد حوله لا يقل حلمية. يفيق الجميع من عقد الأحلام، بلا ثورة وبقليل من السينما. ينتهي المناضل اليساري بحكم طويل بالسجن. أما فيلم "أحداث بلا دلالة" فسيعرض مرتين فقط، مرة على شريط فيديو ومرة أخرى في الساعة الواحدة صباحاً، خفية في مهرجان للسينما الأفريقية. فقط في العام 2019 سيعرض أمام جمهور عام في مهرجان برلين، بعد العثور على النيغاتيف في إسبانيا وترميمه.

يبقى ما لا يمكن ترميمه، مثل المسرح البلدي في الدار الذي يظهر بضع مرات في الفيلم كونه ساحة للتمرّد المتواصل سياسياً وفنياً، والذي تغلقه السلطات بعد أحداث شغب ولاحقاً تهدمه. لكن يمكن، على الأقل، استعادة صورته من ظلمة النسيان.

(*) يعرض الفيلم مجاناً في منصة "أفلامنا" حتى يوم الأربعاء 29 آذار/مارس الجاري.
AFLAMUNA | أفلامنا Home