البارثينون بعد "حرب الأيقونات"... كاتدرائية صليبية ومسجد عثماني

محمود الزيباوي
الخميس   2023/03/23
"قطع اللورد ألجين" في المتحف البريطاني.
قدّم متحف الفاتيكان إلى الكنيسة اليونانية، ثلاث قطع نحتية، مصدرها معبد البارثينون الإغريقي دخلت مجموعته منذ قرنين. وأعادت هذه "الهبة المسكونية" إلى الواجهة، قضية القطع النحتية المعروفة بـ"قطع اللورد ألجين"، وهي التي نزعها هذا اللورد البريطاني من المعبد، مطلع القرن التاسع عشر، وعاد بها إلى موطنه، فدخلت المتحف البريطاني واستحوذت على محور أساسي من هذا المتحف منذ العام 1816، وباتت تُعرف كأكبر مجموعة من منحوتات البارثينون.

شُيّد معبد البارثينون في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، واعتبر منذ ذلك الحين آية من آيات الفن اليوناني. تعرّض هذا المعبد إلى نكبات عديدة خلال القرون الميلادية الأولى، غير أنه صمد، وحافظ على بريقه. مع صعود المسيحية، وتحوّلها إلى دين الإمبراطورية الأوحد في نهاية القرن الرابع، دخل المعبد في منعطف جديد، وتحوّل إلى كنيسة بعدما جُرّد من العديد من حُلله. لا نعرف متى تمّ هذا التحوّل بشكل دقيق، والأكيد أن أقدم أثر مسيحي خاص بهذا الشأن يعود إلى نهاية القرن السابع. يذكر هذا الأثر اسم أسقف يُدعى أندرياس تولّى كاتدرائية البارثينون، ما يعني أن هذا المعبد كان كاتدرائية في هذه الحقبة. 

في المقابل، عُثر في القسم الجنوبي من هذا المعبد على قبور مسيحية تعود إلى القرن السادس، ما يوحي بأنّ البارثينون تحوّل إلى كنيسة منذ ذلك العهد. كُرّس المعبد في الأصل للإلهة أثينا، وحوى تمثالاً ضخماً يمثّلها، صُنع من الذهب والعاج، يبلغ طوله 12 متراً، ولا ندري ماذا حلّ بهذا التمثال. قبل رحيله عن هذه الدنيا في 485، تحدّث الفيلسوف الأفلاطوني المحدث برقلس عن هذا التمثال الذي وقف على مدى قرون في البارثينون، وأُخرج من موقعه على أيدي "هؤلاء الناس الذين نقلوا من المعبد أشياء لا يجب نقلها"، في إشارة واضحة إلى جماعة من المسيحيين. في هذه الحقبة، تم نقل تمثال ضخم آخر لأثينا يُعرف باسم "أثينا بروماخوس"، وحُمِل إلى القسطنطينية حيث خرب في زمن لاحق. 

"حرب الأيقونات" وانتصار أنصار الصور
تعرّض جزء من حلل البارثينون النحتية إلى التلف منذ ذلك العهد، كما يؤكّد اليوم أهل الاختصاص، وتمّ تخريب جزء آخر في القرن الثامن، وتصدّرت قضيّة الصورة الدينيّة واجهة الحياة الكنسية والمدنية في الإمبراطورية البيزنطية، وباتت ساحة لطرح الخلافات القائمة حول شخص المسيح وخصائص طبيعته الانسانيّة وصورته الماديّة، وكانت نتيجة هذه الخلافات حرباً عسكريّة ومباحثة جدلية في اللاهوت والناسوت دامتا سحابة مئة وعشرين عاماً.

تُعرف هذه الفترة التاريخيّة بحرب الأيقونات، وقد امتدّت في أنحاء الامبراطورية البيزنطيّة حيث انقسم المجتمع الى حزبين: فريق يرفض الصور رفضاً قاطعاً، وآخر يناصرها ويعلن ولاءه لها. فريق يتهم خصمه بالكفر والتجديف، وخصمه يرد التهمة عليه ويتهمه بالوثنية والعودة الى عبادة الأصنام. انتصر أنصار الصور، غير ان هذا الانتصار أدى إلى سيطرة الكنيسة على الفن بشكل شبه كلي. هكذا تراجع النحت حتى اندثر، وظهرت جمالية دينية جديدة تترجم العقيدة المسيحية بأمانة تامة، بعيداً من ناموس الكلاسيكية اليونانية الرومانية. خرب جزء من منحوتات البارثينون خلال هذه الحرب، ونجا الجزء الذي استقرّ في أنحاء بعيدة من النظر، بحيث لا تشكّل تحدّياً استفزازياً للمؤمنين المسيحيين.

تحوّل البارثينون إلى كاتدرائية مكرّسة للسيدة العذراء، كما تشهد الحوليات البيزنطية العائدة إلى القرن العاشر. بعد انتصاره على البلغار، مرّ الإمبراطور باسيليوس الثاني بأثينا، وشكر السيدة مريم المليّة الطوبى، ووهب كنيستها العديد من الهدايا. بعدها، منذ القرن الثاني عشر، لُقّبت مريم بسيدة أثينا وشفيعتها، واحتلت الموقع الذي احتلّته الإلهة أثينا من قبل. تمّ توسيع كاترائية البارثينون في هذه الحقبة، كما أضيفت عناصر معمارية جديدة له، وحوى الموقع صوراً جدارية عديدة، كما تشير الشواهد الأدبية والأثرية العديدة. 

محمد الفاتح يذكر "كنيسة والدة الإله"
دخل الباثينون المسيحي في مرحلة أخرى من التاريخ إثر الحملة الصليبية الرابعة في مطلع القرن الثالث عشر. سيطر الصليبيون على أثينا، وأنشأوا "دوقية أثينا"، وجعلوا من البارثينون الأرثوذكسي كاتدرائية كاثوليكية، وأحدثوا تعديلات هندسية جديدة في هذا الصرح، كما زيّنوه بجداريات جديدة بقيت منها شواهد قليلة. دام حكم دوقية أثينا حتى منتصف القرن الخامس عشر، وانقضى في 1456 بدخول العثمانيين إلى المدينة في عهد "السُلطان الغازي أبي الفتح والمعالي مُحمَّد خان الثاني بن مُراد بن مُحمَّد العُثماني". بعد بضع سنوات، في تاريخ يصعب تحديده بدقة، تحوّلت كاتدرائية الكاثوليكية إلى مسجد، ولم يمسّ هذا التحوّل بأسس البناء، كما أنه لم يمسّ بحلله.
 
كما هو معروف، تميّز محمد الثاني بشخصيته وثقافته، كما عُرف بميله الشديد لدراسة كتب التاريخ. تواصل السلطان مع عالم إيطالي من مدينة أنكونا يدعى شيرياكو، وعهد إلى الكاتب اليوناني ميخائيل كريتوبولس مهمة تدوين سيرة حياته في قصة يظهر فيها في دور الإسكندر الجديد، واستقدم عدداً من الفنانين والمهندسين الأوروبيين للمشاركة في إعادة بناء الإمبراطورية البيزنطية في قالبها العثماني الجديد. حوّل السلطان العثماني كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد، غير أنه حافظ على لوحاتها الفسيفسائية المسيحية كما تؤكد السجلات التاريخية العائدة إلى تلك الحقبة. انتهج السلطان الغازي سياسة مشابهة في أثينا، وحافظ على حلل البارثينون، كما تؤكّد الدراسات الأكاديمية اليوم.

من المفارقات العجيبة، ذكر محمد الفاتح بنفسه البارثينون في مدوّنة أُنجزت بين 1458 و1460، وقال أنه "كنيسة والدة الإله"، وأنه كان قديماً معبداً "للإله المجهول"، بخلاف الرواية التاريخية التي تربطه بالإلهة أثينا. ونجد في هذا القول استعادة لقول بولس الرسول في حديثه إلى الأثينيين: "لأنني بينما كنت أجتاز وأنظر إلى معبوداتكم، وجدت أيضاً مذبحاً مكتوباً عليه: لإله مجهول. فالذي تتّقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به" (أعمال الرسل 17: 23). هكذا اضحى البارثينون مسجداً، وفي القرن السابع عشر، وصف الرحالة العثماني أوليا جلبي هذا المسجد بدقة متناهية في كتابه "سياحت نامه" (كتاب الرحلات) المكون من عشرة أجزاء، وقدّم في هذا الوصف صورة توثيقية نادرة لحال هذا الصرح في زمنه. وفي 1674، أُنجزت أول رسوم توثيقية معروفة لهذا الموقع على يد رسام رافق الماركيز دو نواتيل، سفير الملك لويس الرابع عشر في ديار "الباب العالي". وتشكّل هذه الرسوم مرجعاً استثنائياً للتعرف إلى مختلف حلل البارثينون النحتية التي تشتّتت لاحقاً.

في 1687، وخلال الحرب السادسة بين قوى العثمانيين وقوى البندقية التي قادها الدوق فرانشيسكو موروسينى، تحصّن الأتراك في البارثينون، وأطلقت قوات البندقية عليهم قذيفة أصابت المبنى وأحدثت فيه انفجاراً هائلاً أدى إلى سقوط سقفه، كما أدّت إلى تدمير العديد من منحوتاته. سيطرت البندقية على أثينا لفترة وجيزة، وحاول الدوق فرانشيسكو موروسينى أن ينزع بعضاً من تماثيل البارثينون، غير أن هذه المحاولة تسبّبت في خراب هذه التماثيل. تراجعت البندقية في 1688، وبسط العثمانيون سلطتهم من جديد على أثينا، وشهد البارثينون في هذه الفترة الكارثة الأكبر في تاريخه، حيث ضاع جزء كبير من حلله وتشتّت. تحوّل البارثينون إلى موقع أثري جذب الرحالة والفنانين الأوروبيين الشغوفين بكل ما يتعلّق بالكلاسيكية اليونانية. في هذا الخضم، بدأ البريطانيون بدراسة الموقع وتوثيقه بشكل أكاديمي، وتبعهم الفرنسيون سريعاً في هذا الميدان. 

الخلاف مستمر بين أثينا ولندن
في مطلع القرن التاسع عشر، شغل اللورد ألجين منصب سفير بريطانيا في العاصمة العثمانية، فأنشأ فريقاً بقيادة الرسام الإيطالي جيوفاني باتيستا لوزياري، وشرع هذا الفريق في التنقيب في موقع الأكروبول، وعاد بعشرين حقيبة من الآثار، نُقلت إلى لندن بكلفة سبعين ألف جنيه. هكذا دخلت منحوتات البارثينون إلى المتحف البريطاني، واستحوذت على محور أساسي من هذا المتحف منذ العام 1816، وباتت تُعرف كأكبر مجموعة من منحوتات البارثينون. 

بين 1983 و1989، طالبت الحكومة اليونانية باستعادة "قطع اللورد ألجين"، يوم كانت ميلينا ميركوري وزيرة للثقافة. تكرّر هذا الطلب في 1993، واستمرّ حتى رحيل ميلينا ماركوري في العام التالي. قالت السلطة اليونانية إن المنحوتات المحفوظة في بريطانيا أُخذت بشكل غير قانوني، حين كانت البلاد تحت الاحتلال العثماني، ويجب إعادتها للعرض الدائم إلى جانب منحوتات البارثينون الأخرى، والموجودة في متحف الأكروبول. في المقابل، أصرّ المتحف البريطاني على أنه لن يتخلّى مجموعته، وقال إن بلاده حصلت على هذه القطع بموجب اتفاق مع الباب العالي. غير أن الوثيقة الرسمية الخاصة بهذا الاتفاق ضائعة، ودليلها الوحيد نص مترجم إلى الإيطالية يبدو مبهماً من الناحية القانونية.

شهد هذا السجال تطوّرا في الآونة الأخيرة، حيث أعلن رئيس المتحف البريطاني إن "المملكة المتحدة واليونان تعملان على صفقة من شأنها أن تتيح المجال للجهتين عرض منحوتات البارثينون في كل من لندن وأثينا". ولم تتضّح بعد معالم هذه الصفقة.