"النقطة صفر" لمحمد سامي: البُعد الثالث للشكل

شادي لويس
السبت   2023/03/18
"غرقة الصلاة"
في عهد صدام حسين، درس محمد سامي الفنون الجميلة، قبل أن تدفعه الفوضى التي أعقبت الغزو الأميركي إلى الفرار، وبعدها حصل على حق اللجوء في السويد العام 2007. وفي المملكة المتحدة، حيث تابع دراساته العليا، كان المنتظر منه تقديم أعمال تتناول الخراب والسيارات المفخخة وانفجارات الأسواق وجثثها الممزقة. فمعايير السوق والنقد تحفز مفاهيم الخبرة الذاتية والخلفية الإثنية والتمثيل الهوياتي. على تلك الخلفية، يجثم المحتوى المفروض بأحكام التاريخ السياسية والأصل، كعبء، ولا يظهر أن هناك مهرباً منه سوى في الشكل.

 


يقدّم المعرض الفردي الأول لسامي، والذي يستضيفه حالياً مركز كامدين للفنون في لندن، مثالاً نموذجياً للجوء إلى الشكل والإغراق فيه. لوحة "النقطة صفر" التي يحمل المعرض اسمها، تبسط أفقاً من درجات الأصفر المغبرة يحيط به إطار بيضاوي. وسط أكثر من طبقة من التوريات، تظهر بيضاوية الإطار على شكل الرقم صفر بالإنكليزية، وكنافذة طائرة تطل على عاصفة ترابية أو صحراء بلا معالم. ويشير النص التعريفي للمعرض إلى أنّ أعماله تتناول بالأساس موضوع الذاكرة، ذاكرة بصرية بالأساس، قوية وتفصيلية لكنها في الوقت ذاته انتقائية ومشوشة ولا يمكن الاعتماد عليها. يُعطّل المعنى عمداً، فلا يمكننا الجزم إن كان هذا مشهد وداع أم حلماً أم عودة.

يهبط سامي إلى النقطة صفر، وفي اختزاله العمل التشكيلي إلى وحداته البسيطة، الضوء والظل، وهو يركز على موضوعات الطبيعة الساكنة الأقرب إلى التجريد. تظهر في اللوحات، أبواب نصف مفتوحة، ومراتب أسرة مرصوصة فوق بعضها، ونافذة يخترقها شعاع نور، وسجاجيد متموجة، وتلقي أسلاك كهربائية بظلال مثل عناكب ضخمة على الأرض، وداخل مشاهد حلمية وناعسة وطقسية يبدو وكأن شيئاً قد حدث أو أننا أمام مسرح جريمة لم تحدث بعد، وسط سكون ثقيل ومنوّم.


ربما عن غير قصد، يذكرنا عنوان المعرض بالعمل المرجعي "الكتابة في الدرجة الصفر" للناقد الفرنسي رولان بارت، أو بالأخص إحدى جُمله: "على الأدب أن يشير إلى شيء مختلف عن محتواه"، أو كما يقول في موضع آخر، "الشكل يظهر معلقاً أمام الأنظار وكأنه موضوع". هذا ما يفعله سامي بدقّة، وهو يتفادى المحتوى وينفيه خارج لوحاته، فلا بشر هناك، كل اللوحات خالية. في لوحة بعنوان "المنصة"، لا شيء سوى مكبّرين للصوت، وحين تظهر صورة لرجل بزيّ عسكري في لوحة "غرفة التأمل"، فإن النصف الأعلى من الصورة يُطمس بالأسود، فلا نرى ملامح الوجه. وفي لوحة "غرفة الصلاة" يغطي اللون الأسود ثلثي صورة لرجل دين شيعي، فلا يمكن تحديد هويته. بالتأكيد يمكننا التخمين أن الصورة الأولى لصدام حسين، والثانية للخميني، إلا أن هذا التخمين يظهر بلا جدوى وهوية أصحاب الصور ليست ذات صلة ولا يعنينا التيقن منها، وكأن ثمة راحة في تجاهلها وتجاهل المدرك والمعلوم والمباشر والأيقوني.



في لوحة بعنوان "مخيم اللاجئين"، نرى أمامنا دراسة تفصيلية لجرف صخري غرانيتي يحتل أكثر من خمسة أسداس الصورة. وفي القمة، أي في السدس الأعلى والبعيد، يظهر مبنى ينعكس عليه ضوء الشمس على خلفية من أزرق مبهج وسط غابة من أشجار. لا لاجئين ولا معسكر في اللوحة، لكن هناك شيئاً قاسياً وبارداً أيضاً في تلك الكتلة الصخرية التي تحتل معظم المساحة، وثمّة ما هو مذهل في طبقات الألوان السميكة وضربات سكينة الدهان التي يمكن قراءة تاريخها، ومعها الخربشات الموحية بقدر من العنف والتردّد. الحيرة أمام اللوحة، وأمام تحديد موضوعها، تعطّل القدرة على توجيه النظر وإعادة تركيب أقسامها. ومع إعادة المحاولة، تدفع حالة اللايقين، المتلقي، إلى الاستسلام أمام سطوة اللوحة، بشعور عارم بالضآلة والهشاشة أمام أبعادها ذات الحجم الهائل، وكأن هذا كله إعادة إنتاج لخبرة اللجوء عبر الشكل، والشكل وحده.

يشير بارت إلى أنّ للشكل بُعداً ثالثاً غير اللساني والأسلوبي، ولئن كان اللساني بحسبه هو ما قبل الأدب والأسلوب هو ما بعده، فإن هذا البعد الثالث الغامض هو سحر الأدب وما لا يمكن تعيينه. على المنوال نفسه، تقدّم أعمال سامي بياناً عملياً عن ذلك البعد الثالث في البصري، حيث تكون عناصر اللون والخط هي المقابل لمفردات اللساني وبنيته، ويكون الأسلوب متجذراً في ذكرى الفرد المغلقة وتاريخه الشخصي، أما البعد الثالث فهو السر الذي يجعل الشكل هو المحتوى، أو بالأحرى ما يجعل الفن فناً.