"المدينة الأصولية": عمران ما بعد العلمانية

شادي لويس
السبت   2023/03/11
الضاحية الجنوبية لبيروت
كيف تراجع الحق في المدينة على خطوط التقسيمات الدينية؟ وما هي العلاقة بين الأصولية والعمران الحضري؟ أي هل هناك آليات محركة للأصولية تعززها أو تنتجها المدن؟ وإن كان، فكيف تتمثل وتمارس تلك الأصولية في المدينة وتغيرها؟

للإجابة على تلك الأسئلة وغيرها، فإن كتاب "المدينة الأصولية: عن ممارسات التدين والتطرف وآثارهما على العمران" يقدّم دراسات لنماذج متباينة من المدن والأصوليات. ولا يسعى المساهمون في فصول الكتاب الاثني عشرة، بتخصصاتهم المتنوعة من التاريخ إلى الجغرافيا والأنثروبولوجيا والعمارة، إلى إنتاج نظرية عامة عن الأصولية والعمران، بل ما يبدو هو العكس، أي مشكلة أي افتراضات جامعة قد تضع دلهي إلى جانب لندن أو تجمع بيشاور مع ضاحية بيروت في الخانة نفسها.

في المقدمة يسائل محرر الكتاب، الدكتور نزار الصياد المتخصص في العمارة وتاريخ التخطيط العمراني، تعريف الأصولية، ذلك المفهوم أميركي الأصل والمرتبط بالبروتستانتية المحافظة، والذي تم تعميمه لاحقاً على تيارات الإسلام السياسي بدلالات ازدرائية قبل أن يتم التراجع عنه لصالح مصطلحات أخرى، مثل "الإسلاموية" و"الإسلام الراديكالي". يراجع الصياد أيضاً العلاقة بين الطائفية والأصولية، وبين الإثنوقراطية والقومية، والمحافظة والأصولية والتدين والتطرف، أين تبدأ حدود الواحدة منها وتنتهي الأخرى. ومع عدم اتفاق المساهمين في الكتاب على تعريف مطلق للأصولية، فإنها بشكل تقريبي وفضفاض نوع من الأيديولوجيا لا اللاهوت، حركات مانوية تقسم العالم إلى خير وشر، مع إيمان بماض ذهبي يجب استعادته، عبر تكتيكات لفرض السيطرة على فضاءات المدينة وإعادة تشكيل الحياة.

في فصل بعنوان، "عن ممارسات التدين والحيز العمراني" تتبع منى حرب تجربة حزب الله في بيروت، وكيف تحولت ضاحيتها الجنوبية وبشكل رسمي إلى "الضاحية" بألف لام التعريف. ومع الأخذ في الاعتبار عمليات طبع الفضاء بالرموز الدينية واستدعاء الذاكرة واليوتوبيا في فضاء المدينة، فهي تركز أكثر على البنية المؤسسية لحزب الله وشبكات تجميع البيانات واتخاذ القرار القاعدية والأدوات التخطيطية العلمية التي يتم توظفيها من أجل ترسيم الحيز الجغرافي وإنتاج فضاءات محفورة ومطبوع بالمعاني الروحية. وفي ما يتعلق بالسياق الفلسطيني، تفرد فرانشيسكا جيوفانني فصلاً بعنوان "حماس في مخيمات اللاجئين"، تقدّم فيه دراسة متعاطفة عن حالة اللجوء بصفتها وضعاً أنطولوجياً في غاية الهشاشة، وتنظر في الطرق التي تحول بها المخيم كفضاء عمراني محروم من المعنى إلى ساحة تشكيل سردية للخلاص القومي والروحي معاً. ومن الجهة الأخرى، يقدم أورين يفتاشيل وباتيا رويد في فصلهما المعنون "الجغرافيا السياسية للتطرف الديني في المدن في إسرائيل/ فلسطين"، دراسة مستفيضة لتلاقيات الأبعاد القومية والاثنية والطبقية في سعي الحركات الاستيطانية الصهيونية لتهويد القدس وبئر السبع والخليل، ما يوضح الارتباط الوثيق بين الراديكالية الدينية وفكرة "استعمار العمران".

وبعيداً من منطقتنا، تمتد الساحات البحثية للفصول الأخرى لتشمل حركة "الهندوفتا" وأثرها على العمران في مدينتي أحمد آباد ودلهي في الهند، وإقصاء واحتواء الآخر في المدينة العلمانية بمثال يتناول المهاجرين المسلمين والكاثوليك في لندن، وكذا تعامل الإنجيليين البيض مع الأحياء الفقيرة السوداء في المدن الأميركية وإقصاء الطبقات الدنيا في البرازيل ومسارح رعب طالبان في المدن الحدودية الباكستانية. ويتضح من ذلك المدى الواسع والمتنوع من حقول الدراسة، الطبيعة المعولمة للأصولية، كونها ردة فعل معارضة للحداثة وانحسار دور الدين في المجال العام. وفي هذا تكون الأصولية شكلاً من أشكال ممارسة التدين ينخرط ويشتبك بشكل مباشر مع العلمانية، يستعين بأدوات الحداثة وتحفزها ضد نفسها.

وعلى عكس توقعات علماء الاجتماع مطلع القرن بشأن تراجع دور الدين في الحضر مع تقدم الحداثة، فإن خليطاً من مؤثرات العولمة والأوضاع المحلية المزرية للطبقات المهمشة أنتجت أشكال متنوعة من مدن ما بعد العلمانية، مدن مقسمة على خطوط طائفية وتسيطر عليها العداوات والعزلة والتفتت وإقصاء الآخر.

وأيضاً وعلى عكس التنظيرات الرائجة عن علاقة الريف بالرجعية والميول المعارضة للعلمانية، فإن الكتاب يؤكد الفصل بعد الآخر وبشكل دامغ على أن الأصولية وتطرفها وعنفها منتج حداثي وحضري بالأساس، وإن كانت المحافظة صفة لصيقة بالريف، فإن المدينة هي مركز تشكل الأصولية ونموها.

(*) نشر الكتاب في نسخته الإنكليزية عن دار روتليدج العام 2010، وصدرت نسخته العربية من ترجمة هالة حسنين عن دار المرايا هذا العام.