ليلة الزلزال: حين سقط شعور الـ"ما يرام"

باسل ف. صالح
الثلاثاء   2023/02/07
شرطي تركي يحتضن ابنته بعد إنقاذها من تحت الأنقاض في هاتاي (غيتي)
"يومًا ما سيكون كل شيء على ما يرام، ذاك هو أملنا،
كل شيء الآن على ما يرام، ذاك هو الوهم".

بهذه الكلمات اختصر فولتير مأساة الزلزال الذي ضرب لشبونة العام 1755 وأدّى إلى مقتل ما يقارب الخمسين ألف شخص. فأعاد الفلاسفة، إثر ذلك، طرح السؤال حول مشكلة الشر، وأصلها، والتساوي أمام الموت: إذ كيف يتساوى في الموت الأطفال والعجزة والنساء والرجال، كيف يموت الجميع بمن فيهم الورعون والمفسدون؟ 

يضيف فولتير: "اهرعوا أيها الفلاسفة الذين يصرخون: كل شيء على ما يرام،
تأملوا خراب العالم، 
انظروا إلى رماد وأشلاء بني جنسكم، 
الطفل والأم مكوّمان في هذا الحطام المشترك،
هذه الأطراف المتناثرة تحت الأعمدة الرخامية".

لقد أعاد الزلزال يومها طرح الكثير من الأسئلة الجوهرية في تاريخ الفلسفة، مشكلة الشر ومسؤولية الإنسان. مشكلة الشر ومسؤولية الله: 

"هل ينتقم الله، والضحايا يدفعون ثمن خطاياهم؟
أي جريمة، وأي خطيئة ارتكبت قلوب الأطفال الممددين، وهم مسحوقون وينزفون على أثداء أمهاتهم؟"

كما أعاد الزلزال طرح السؤال حول مصادر ومآلات التفاؤل والتشاؤم، لكن بنتيجة واحدة مفادها أن بديهية "التفاؤل" والـ"ما يرامية (كل شيء على ما يرام)" باتت على المحك، وتبعتها مقولة الفيلسوف لايبنتز "إننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة" لتصبح على المحك ذاته.

اليوم، بعد أكثر من 267 عامًا، لا أخفي أن الرعب تملّكني حين ضرب الزلزال منطقة جنوب تركيا والشمال السوري، وطاولت هزاته الارتدادية بيروت ومعظم المناطق اللبنانية، وفي السرير حيث كنت نائماً على وجه الخصوص. كان ذلك ليلة 5–6 شباط 2023، مرّة من المرات التي يتملكني فيها مثل هذا الشعور بالرعب والعجز والخوف. والمرة الأولى التي تلّح فيها الأسئلة الوجودية على إعادة طرح نفسها من دون سابق إنذار، وعلى إعادة الشك في تاريخ سيطرة الإنسان وهيمنته. لقد أبدَعَت الطبيعة وكوارثها في إعلان سيطرتها المطلقة والأبدية على كيانها، وزمانها، وعلى طاقاتها، وطبقاتها، وسماواتها، وعناصرها... في تلك الليلة. أبدَعَت وتفرَّدَت في قول: أنا هنا حين أريد أن أكون، أنا هنا، أستطيع أن أطيحكم بسرعة البرق أيتها الكائنات المتعجرفة.

لقد أكّد طوماس هوبز أن "الخوف هو القوة الدافعة والأساسية التي جعلت الناس يخرجون من حالة الطبيعة"، وهذا بالتحديد ما تكرّر اليوم. إن القصد من كلام هوبز هو الخوف على الحياة، بمعزل عن مصدره، هل هو الآخر أم هو الطموح والتملّك بغية ضمان ما يمكن ضمانه للمستقبل وما ينتج عنه من ذئبية الإنسان؟ هل هي حرب الجميع ضد الجميع؟ كلها لا تغيّر حقيقة أن الخوف هو شعور الشعور، بمعزل عن موضعه، هو مصدر كل سلوك. تفادي الموت هو العنوان، فالإنسان كائن يخاف الموت، وجل محاولاته هي للسيطرة على مصادر الخوف تلك. 

عندما ضربت لبنان هزات أرضية في السابق، أذكر كثافة الارتجاج والخوف والرعب والعجز الذي تأتى عنها، اذ خرج الناس إلى الطرقات خوفًا من سقوط الأسقف والجدران والأبنية. لكن ليس كهذه المرة، ليس بهذه الكثافة وطول المدّة. لربّما كنت مراهقًا يومها، أشعر واختبر هذه الدرجة المختلفة من الخوف للمرة الأولى. كانت هذه الدرجة من الخوف بمثابة تجربة جديدة أضيفها إلى سيرتي الذاتية المتردّدة بين حذر و"لذة" شعورية جديدة ومكثّفة. إلا أن الشعور ليلة فجر الإثنين لم يكن على هذا النحو إطلاقًا، توقف الزمن فشعرت أن الهزّة تكاد تكون شريط حياة طويل وممتد، لا بداية له ولا نهاية، مطبوعة عليه كلمة واحدة لا تمل من تكرار نفسها بالحيوية ذاتها: الاستسلام. 

لا أعلم. أفكّر اليوم أنه لربما يتأتى الخوف عن التكرار، وليس عن تجربة المرة الأولى، فيكون ديفيد هيوم على صواب. أعتقد أن الأمر على هذا النحو منذ البداية، وأن الإنسان يخطئ حين يخاف من المجهول المتأتي عن التجربة الأولى، بل هو ارتباك من مقدار التجريبية وضحالة إدراكنا وخام أدواتنا ومَلَكاتنا أمامها. أما بالتكرار، حين تُبَث التجربة لمرة ثانية وثالثة ورابعة في إدراكنا، فيمسي الشعور بالخوف مُعقلناً، يصبح حتمياً، فيعلن أنه سيد المشاعر، وأنه تلك المساحة المحيطة بنا وبكل ما نعرفه وندركه، وأنه صلة الوصل المنسوجة من خيوط شفّافة وركيكة تفصّل بين سبب أن نكون ونتيجة ألا نكون. فعلى الرغم من حدّة انطباع التجربة الأولى، إلا أنها تبقى من دون أي سند عقلي، من دون أي مرجع ولا ذاكرة، من دون أي استعادة وتبوّل لا-إرادي. هي مجرد شعور مطلق، إما أن يكون قاتلًا فينتج موتاً من دون إدراك ومن دون أي انتباه، أو يكون متكرراً فتموت بانتباه هذه المرة، تموت بكامل قواك العقلية. انتباه يرافقه استسلام تام، وخوف وعجز وشلل لا يمكن ألا تعيره انتباهك، بل لا تملك إلا أن تخرّ أمامه.

لم يتأخّر الخوف يوماً عن التزامه بتحقيق المساواة بين البشر، فحين يكون بهذا القدر من العنف والقوة يكون شاملاً جامعاً. وعلى الرغم من التفاوت في تقديره، وعلى الرغم من التفاوت في السلوك حياله، إلا أن الخوف عندما يقارب استمرار الوجود يصبح أمراً آخر، قوّة لا تضاهيها ولا تصمد أمامها كل أنواع المقاومة. وهذه المرة أيضاً، لم يخلف الخوف موعده، بل سيطر على الجميع بالتساوي. لقد تحوّل إلى حالة عامة فأعلن سيادته المطلقة وسلطته اللانهائية على كل شيء، حيث لا انتصارات ولا بطولات وهمية، لا مزايدات ولا مباهاة وعجرفة، ولا شعور مكثّفاً بالتفوّق. هي لحظة ارتجاج يرافقها خوف محض، لا كلام فيها ولا أي تعبير، مجرد فاه مشرَّع أمام محاولات امتلاك اللحظة الحاضرة. عينان شاخصتان في سقف الغرفة، وكأننا نشاهده للمرة الأولى، بل نترقّب إمكانات إطباقه على أجسادنا فنسمع صوت سحقها. 

هو الشعور بالخوف والعجز، لا أكثر ولا أقل. شعور بالوهلة، بالحقد على ما لا نستطيع أن نحدّد مركزاً ومصدراً له. حقد وكره ولوم، رفقة خوف لا نستطيع تحديد أي اتجاه يسلك. لربما هناك علاقة بين كثافة إبادة العصافير والكلاب والقطط، والتعذيب المستمر الذي يمارسه البعض في هذه البقعة الجغرافية. تعذيب أثمر استجداء أرواح هذه الكائنات المحطمة لأمّها الأرض، فأعادت التذكير بحضارة الكائن المتعجرف الذي يزعم سيادته. واللافت أن الكثير من الأصدقاء لاحظوا عدم اضطراب سلوك حيواناتهم الأليفة. كانت هذه علامة فارقة. في حين أن البعض الآخر لاحظ ذلك السلوك. هذه تدحض تلك، لكنها تبقى من العلامات اللافتة على الرغم من إجابة العلم المقنعة على سؤالها. لا أعلم، مرة جديدة، وهذا الشعور بالعجز وقلة الحيلة يزيد ويتمدّد بتمدّد الزمان وتقلّص احتمالات الطمأنينة في المكان. 

هل يمكن معالجة الأمر بالتضرّع؟ لا أعتقد. هل يمكن معالجته بالعِلم؟ هذه أقرب إلى المنطق، على الرغم من أن العلم لا يمنع الزلازل بل يمنحنا إمكانية تشييد أبنية تصمد أمام الانهيارات. لكن في الحالتين، لا يمكن منع الناس من ممارسة حقهم في محاولات تفادي الخوف بأي طريقة كانت، وبأي إمكانية يعتقدون بها وفيها. فهذا هو الهدف الأسمى، بث الطمأنينة والسلام الداخلي. 

أما من ناحيتي، فما أعرفه جيداً هو أن كثافة الخوف الذي شعرت به تلك الليلة، كمية لحظات النهاية التي تكررت في مخيلتي، ما زالت ماثلة أمامي اليوم. أترقّبها كل لحظة، أشعر بها في لهب فتيل الشمعة المتراقص، في أوراق الأشجار المهتزّة، في عيون القطط وهي تحدّق فيّ أمام المنزل. إنه الخوف، سيد المشاعر، المحرّك الأول، خالق الشعور والسلوك، القدر الذي يرافقنا باستمرار.