الزلزال، العِلم، السِّحر

رشا الأطرش
الثلاثاء   2023/02/07
فرانك هوغربيتس يحظى بمليون متابع (Takvim)
في الخضّات الكبرى، كأننا بالباب يُفتح تلقائياً للسّحر. يكفر بعض البشر فجأة بالعِلم، ليبحثوا عن بارقة أمل، عن مسكّن ملموس يخاطبهم، أو بالأحرى يخاطب غرائز الخوف والبقاء. ومثلما صعد نجم الباحث البيولوجي الفرنسي، ديدييه راولت، في أوج جائحة كورونا، راكم "الخبير" الهولندي فرانك هوغربيتس، في خلال يومين فقط، ما يقرب من مليون متابع في "تويتر".

كان راولت يبشّر بالـ"هايدروكسيكلوروكين" علاجاً فعالاً وغير مكلف للكورونا، في خضم الهلع العالمي والوفيات بأرقام مرعبة وعجز الأنظمة الطبية في أكثر الدول تقدماً عن استيعاب الإصابات. ناهض راولت لقاحات كورونا، مثله مثل رافضي اللقاحات عموماً من مروّجي نظريات المؤامرة. واتهم كبرى شركات العقاقير بإيثار الأرباح على صحة الناس، أو بالأحرى بحجب "كشفه العلمي" ومحاربته، لأسباب رأسمالية قذرة، وضع نفسه، مع البشرية المذعورة، في كفّة ضحاياها ومقاوميها في آن واحد. أما هوغربيتس، الذي "تنبّأ" بزلزال تركيا قبل أيام قليلة من حدوثه، فلا يملك بطبيعة الحال منع الزلازل أو مقارعة نتائجها المأسوية، إلا أن سحره يتمثل في استشرافها، علّ المعرفة المبكرة تنقذ المرتعبين من مشاهد تركيا وسوريا، وعملياً من كل مجهول مستقبلي غير متوقّع. هي سمة الإنسان منذ أن سكن الكهوف المظلمة.

راولت اليوم ملاحق قضائياً في فرنسا بعدما تبين ضعف أبحاثه علمياً، بل خطرها. التحقيقات تلفّ مختبره ودراساته. وهو، مع عدد من الباحثين شركائه، ممنوعون من النشر في الدوريات العلمية والطبية. والأرجح أن الزمن لن يطول قبل أن يُحجَر أيضاً على هوغربيتس، بطريقة ما. فما بين الأبحاث العلمية الأميركية واليابانية (أي في بلاد زلازل جمّة) وبعض الأوروبية، والتي تؤكد حتى الآن أنه لا يُمكن التنبؤ بالزلازل، إلا في حدود ضيقة جداً وشديدة القصر زمنياً وغالباً بلا كثير دقّة، وبين نظرية أن حركة الكواكب في النظام الشمسي يمكن أن تساعد في التنبؤ بالزلازل.. لا يبدو أن هوغربيتس يملك فرصة، لكنه ما زال بإمكانه الآن التمتع برُبع ساعة المجد في "تويتر".

والأمل في خلاص بسيط وسريع ومفهوم، أو البحث عن اليقين، أو استشراف الكارثة لتلافيها، وسائر أشكال الشعوذة... ليست المشتركات الوحيدة بين راولت وهوغربيتس. فالرجلان تصدّرا للعالم باعتبارهما فارسَين مُلهَمين. نسختان معاصرتان من روبن هود، تقارعان بما يشبه الرؤيوية، وبصَدر "عِلمهما" العاري، الرأسمالية المتوحشة وتشابكاتها ومصالحها مانعة الخير العميم. وإن كانت شركات العقاقير الأوروبية والعالمية قد "حاربت" راولت، فإن هوغربيتس "تحاربه" المؤسسة العلمية المهيمنة، فغرّد بأن "هناك مقاومة كبيرة داخل المجتمع العلمي في ما يتعلق بتأثير الكواكب والقمر. لكن بحث موسعاً يدحض هذا التأثير. إنه مجرد افتراض. في الواقع، تشير ورقة علمية في (مجلة) Nature إلى غير ذلك". وأرفق هوغربيتس تغريدته بصورة عن رسالة إلى محرر المجلة يعود تاريخها إلى العام 1959.

للمفارقة، قبل هذه الرسالة بأعوام قليلة، وبينما يحتدم السباق بين الدول أقطاب العالم على إرسال الإنسان إلى القمر، كان عالم الاجتماع ثيودور أدورنو قد انتهى من مقالته الطويلة والممتعة بعنوان "النجوم تهبط على الأرض"، والتي حلل فيها زاوية التنبؤات والأبراج في الصحف الأميركية وسبب تعلّق الناس بها واستمرار الصحف في نشرها. وقد جادل أدورنو بأن "علم الأبراج" يعيد صياغة الخرافات غير العصرية، في السحر والتنجيم والماورائيات من خلال تقديمها بمصطلحات امبيريقية بدلاً من تلك الخارقة للطبيعة، كمخططات النجوم وجداولها.. فبترقية وسيلة التعبير عنها، تكتسب الأساطير القديمة حياة جديدة كحقيقة ظاهرة.

المنظومة العالمية والشركات متعددة الجنسيات، جسمها لبّيس بالطبع. علومها واكتشافاتها واختراعاتها ليست ملائكية، ولا هي مجانية، وبعضها متوحش كالكارتيلات. لكنها، بحُكم طبيعتها نفسها، تبقى قابلة للقياس والتمحيص العقلاني، وحتى المحاسبة. وأكثر ما هو مدهش فيها أنه، هي أيضاً، حاضنة المنصات الإعلامية والشبكية الاجتماعية التي تتيح ظهور شخصيات مثل راولت وهوغربيتس، ومعهما آلاف مؤلّفة من المنجمين والمتنبئين ومنظّري المؤامرات والتضليل. بل إن دونالد ترامب، أحد نجوم المنظومة هذه، كان لفترة من معتنقي طروحات راولت وأجاز "دواءه" خلال فترة رئاسته الأميركية. تماماً مثلما أن إيلون ماسك، مالك "تويتر"، لم يحرك ساكناً حتى الآن اتجاه ادعاءات هوغربيتس في منصته، أسوة برهط من المتطرفين والمشكوك في تغريداتهم والذين نالوا، رغم كل شيء، علامة التحقق "العصفورية" الزرقاء.

"لكنها تدور".. تقفز من الذاكرة العبارة التي يُروى أن غاليليو غاليلي أصرّ على التلفظ بها قبل إعدامه، متشبثاً بنظريته بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس. ويعنّ لواحدنا أن يقول: لكنه زمن انقضى، أليس كذلك؟ زمن شهيد المعرفة والتنوير، حياً وميتاً؟ زمن ظلمات الجهل والتخلّف والغيبيات؟

ربما علينا أن نفكّر أكثر قبل المسارعة للإجابة، أو بالأحرى فلنتصفّح أكثر، في لبناننا الصغير على الأقل. ها هو "العلامة" سامي خضرا يجزم: "عندما يصبح المنكر معروفاً وتتم الدعوة إليه دون خجل.. لا بد من زلزلة رومانسية تعيدنا إلى حجمنا الطبيعي". حسناً، هذا رجل دين، وحزبه ديني. وحتى أعتى علمانيات العالم وأكثرها تقدماً، تسير في شوارعها نسخ مشعثة الشعر من يسوع المسيح، محذّرة من العقاب الإلهي. لكن وزير الداخلية أيضاً يتّكل "على إيمان اللبنانيين والتكبيرات في المساجد والصلوات لمار شربل.. والله بيبعت الأمن والأمان للبلد". إنه وزير داخلية البلد المفلس، المنهارة دولته وأنظمته الأمنية والتربوية والصحية، والذي يرسل "الدعم" لسوريا وتركيا بشكل يبعث على.. على ماذا؟ لعلها الدهشة الموجعة طالما أن المأساة لا تتيح سخرية، وهي أكبر بكثير من مشاعر الأسف، وضرب كفٍّ بكفّ. لكنه، على الأرجح، ومرة أخرى: السّحر. لا بد. التوصيف العلميّ الوحيد الممكن.