"نصوص وقراءات حول تاريخ القبط": حين تستنطق الوثيقة

شادي لويس
السبت   2023/02/25
يبين لنا مجدي جرجس كيف أعاد الأقباط تأسيس شرائعهم على أسس إسلامية منذ نهاية القرن العاشر
سجّل القرن السادس عشر سلسلة من التحديات لكنيسة روما، الزحف العثماني من جهة الشرق تزامن مع حركة التمرد البروتستانتية بقيادة لوثر، والتي سرعان ما انتشرت نيرانها في أنحاء القارة الكاثوليكية. وبين الخطر العسكري من جهة، والتهديدات اللاهوتية من جهة أخرى، سعت البابوية في الفاتيكان لتوحيد الكنائس التقليدية، وضم كراسي المشرق تحت لوائها، وبعد سلسلة من المخاطبات والسفارات بين بابا روما وبطريرك الإسكندرية، وقع رأس الكنيستين قرار الاتحاد في يناير من العام 1597.

في كتابه "نصوص وقراءات حول تاريخ القبط"، الصادر عن دار المرايا، يقدم مجدي جرجس وثيقة فريدة تتعلق بتلك اللحظة التاريخية. فبعد اتفاقية الاتحاد بين الكنيستين، وبطلب من بابا روما، أقدم البطريرك القبطي غبريال الثامن على العمل بالتوقيت الغريغوري الغربي، من أجل توحيد مواعيد الأعياد مع الكنيسة الكاثوليكية. كان هذا التغيير مقدمة لثورة عارمة ضد بطريرك الإسكندرية، وتدون الوثيقة المشار إليها لجوء أعيان الأقباط في الوجه البحري إلى المحكم الشرعية، لاستفتاء كبار علماء الدين المسلمين في الوضع الشرعي للبابا بعد إقدامه على مخالفة تعاليم كنيسته. استصدر هؤلاء الأعيان أحكاماً ضد البطريرك من القاضي المسلم تلزمه بالعمل بالتوقيت القديم. وسيتابع الأعيان رفع القضايا الشرعية أمام محكمة المحلة الكبرى ومحكمة الديوان العام وأخيراً محكمة الإسكندرية، وفي سبيل الطعن على قرارات بطريركهم سيلجأون إلى جلب تقرير شرعي من فلكيين مسلمين بشأن أعيادهم القبطية ومواعيدها.

يُعدّ كتاب "الأقباط والغرب" (2015) لأليستر هاملتون، المرجع الرئيس لتأريخ العلاقات بين الكنائس الغربية وكنيسة الإسكندرية. إلا أن ما تكشفه وثائق جرجس هو النقص الذي أحاق بدراسة هاملتون، فهي معتمدة بالكامل على المصادر الغربية، والتي على أساسها يفترض أن الأقباط رحبوا بالوحدة مع كنيسة روما. يثبت لنا جرجس العكس، ويستنطق وثائق المحكمة الشرعية ليحرر صوتاً قبطياً ومحلياً غائباً، وفقدت وثائقه التاريخية أو أهملت لوقت طويل.

عبر تسعة فصول، يقودنا جرجس في جولة حرة في تاريخ الأقباط، تبدأ من القرن العاشر مع تعريب الدواوين ومعها الكنيسة القبطية، وصولاً إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في دراسة لأوضاع الكهنة الأقباط في الريف المصري. ويكون المحور الرئيسي في كل فصول الكتاب، هو الوثائق التاريخية ونصوصها. وتتنوع تلك الوثائق ما بين قرارات السلاطين المماليك لتعيين البطاركة، وقضايا تتداولها المحاكم الشرعية الإسلامية بخصوص لجوء الأقباط لقضاتها بشأن زيجاتهم وطلاقهم، وسجل من محكمة الباب العالي يوقف فيها بطريرك قبطي وقفاً على الحرمين الشريفين، ووثائق لمحكمة القسمة العربية لضبط وبيع مخلفات بطريرك قبطي متوفي في القرن السابع عشر.

يستعرض الفصل الثامن نصاً من المحكمة الشرعية يعود للقرن الثامن عشر يتعلق بتأسيس مقر جديد للبطريرك القبطي في حارة الروم. وبعد أن يبين جرجس التضارب في السجلات القبطية بشأن المقر البابوي وتغير مواقعه، فإنه يدوّن التالي: "ولست أسعى من خلال هذه المداخلة إلى تقديم رواية منضبطة لتاريخ مقر بطريرك القبط الأرثوذكس، ومراحل انتقالاته، ربما يكون دوري هو العكس وذلك من خلال تقديم نصوص جديدة قد تزيد الأمور اضطراباً".

بالفعل يلتزم جرجس في كتابه بهذا المنهج، فهو لا يسعى لكتابة تاريخ مكتمل للأقباط، بل التوقف في بعض محطاته، والكشف عن نقص وعوار وجهل وتقصير بشأن هذا التاريخ. ومن خلال ما يبدو كتدريب على فك الأحاجي وإبراز التناقض، يضعنا أمام عدد من الإجابات المفترضة، وأحياناً يقوم بتفكيكها جميعاً ومن ثم يتركنا بلا إجابة، فهو لا يعدنا في أي وقت بكشف نهائي أو سردية مكتملة.

ومع قولنا هذا، فالكتاب مع تباعد موضوعاته تاريخياً، فيه خيط مزدوج يربطها جميعاً من البداية إلى الخاتمة. أولهما هو خيط الأسلمة وليس التعريب فقط، فجرجس يبين لنا من الفصل الأول كيف أعاد الأقباط تأسيس كنيستهم وشرائعهم على أسس إسلامية منذ نهاية القرن العاشر ومطلع القرن الحادي عشر. ويبدو لجوء الأقباطن من علمانيين وإكليروس، للمؤسسة الشرعية الإسلامية ومحاكمها وفقهها متواتراً ومتواصلاً بشكل تاريخي، في كل الفصول اللاحقة. أما الخيط الثاني الرابط لفصول الكتاب فهو الصراع الطويل والمستمر بين الكهنة والأراخنة من أعيان الأقباط على تمثيل الطائفة سياسياً وتصريف شؤونها، وهو الصراع الذي لن يقتصر فقط على التقاضي بل على السجن والعزل والوشاية وأحياناً ليست بالقليلة قيام العلمانيين بقتل البطاركة.

بالإضافة إلى العنصر التاريخي، الذي يتجلى في تبيان الكتاب لسياق إصدار الوثيقة ودلالتها، فإن تركيز جرجس الأكبر يظل منصباً على النص نفسه بوصفه نصاً، أي بطرائق صياغته وبنيته وانتقاء ألفاظه، ودلالات هذا الانتقاء ومعانيها. وفي سبيل هذا يستعرض أمامنا مبحثاً موجزاً في فن الإنشاء القبطي ونماذج وثائق الأدراج البابوية، وأصولهما ومراجعهما الإسلامية. وكما في شأن التاريخ، يورطنا جرجس في عدد من الألغاز المتعلقة بتلك الصياغات، ثم يتركنا في حيرة من أمرنا بشأن حلولها حيناً، أو أمام أجوبة غير حاسمة حيناً آخر.

بأسلوب واضح موجه لغير المتخصصين، لكن لا يخلو من الانضباط الأكاديمي، يطرح كتاب جرجس ما يمكن تسميته خطاباً أفقياً، بلا تعال ولا كمال، حيث يقع في العمق من كل وثيقة وكل نص، تاريخ غير مكتمل ورسالة غير منجزة، لا تدعونا للتيقن بشأن ما نعرفه عن ماضي الأقباط، أو ما نلم به من التاريخ بالعموم، بل يحفزنا لإدراك قلة ما نعرفه منه وحاجاتنا للتفتيش أكثر فيه، وبالأخص في علاقته بالحاضر.