زلزال الدمع لم يتوقف حتى الآن

فوزي ذبيان
الخميس   2023/02/23
الدموع الذهبية (غوستاف كليمت)
"من المخجل أن نتملّص من كل هذا الحزن الذي يحاصرنا من كل جانب وننصُب له كميناً من الإبتسامات". 
- دلال زين الدين، من رواية "عمامة وجسد".

قد تكون الدموع صاخبة، ضاجّة، رعد يزلزل. وقد تكون صامتة مكتومة متوارية مثل يَد شبح يُوْرب باب العالم بهدوء.
الدموع بالإجمال هي مجافاة الوجه للعالم. أما تلك التي تنسكب عن فرح، فهي أقرب إلى أن تكون تماهي الوجه مع عالم لم يتهيّأ لنا بعد، عالم نرجوه الحضور.
ربما الدمع ليس أكثر من محاولة لغسل الوجه البشع للأيام بماء القلوب، وقد يكون خريطة متعرجة لعالم يشي بالأفول.
الدمع هو عين أخرى، قافلة سائبة من العيون... الدمع وجه، قامة منتصبة بجفاء وهو أيضاً وقار يضارع الرب الوقور.

قد يكون الدمع في بعض مآربه محاولة أخيرة لا تني تتكرر لرتق الشقوق في جسد الوجود أو مساهمة مدرارة لجمع تفسخات العالم وشتاته... إنه، كما أراه الآن، سعي حثيث لوصل القدم مع باقي الجسد من أجل الفرار.
غالباً ما يكون الدمع أزقة ضيقة لا تخصّ سوى الباكي، أو هو ساحة شاسعة بلا جدران. تراني أتمثّل الدمع المنهمر كدبيب فوق صفيح العالم المتّقد أو استراحة مقاتل تحت سماء ملبّدة بالعيون.

إذا ما أردتُ تجسيد الدمع في هيئة، فهو كائن فسيح فضفاض، أو لعله ضيف عابر أو ضيف دائم المكوث أو ضيف دائم الترنّح في تلك المسافة الشاسعة التي تقع بين المكوث والعبور.

سأل رولان بارت: مَنْ سيكتب تاريخ الدمع؟
الجواب: إن أول نص مدوّن عن الدمع يعود للقرن الرابع عشر قبل الميلاد وقد اكتُشف، ويا للصدفة، في شمال غربي سوريا(*). لا تاريخ للدمع، إن الدمع هو التاريخ... لا حدود واضحة وصارمة بين العالم والدمع. فالدمع هو الحجة التي لا يمكن دحضها على أننا موجودون.

حسب القديس توما الإكويني، في خلاصته اللاهوتية، إن الدمع هو الروح المنسكبة فوق الخدّين، أما القديس أوغسطينوس فقد أعلن في اعترافاته أن الدمع هو وسادة الله في سعينا للوضوح... وأنا أزيد على كل من القدّيسَين القول: إن الدمع هو ترويض العالم لنا كي نتآلف مع حزننا العميق، مع حزننا السري ومع حزننا المكشوف.

كان آباء العصور الوسطى يرون في الدموع المنسابة وسيلة لغسل خطايا العالم. لكن، ماذا إذا كان العالم هو بعينه الخطيئة التي لا تُغتفر؟!! تراني أسأل بشغف المُنتظِر من دون أن ألقى الجواب.

جاء في مزامير العهد القديم: صارت لي دموعي خبزاً نهاراً وليلاً. يبدو أنه قد تاه عن كتبة  المزامير الذين قد احدودبتْ ظهورهم أن الدمع لا يعترف بتلك المسافة التي تقع بين الليل والنهار، لا يعترف بالمسافات بإطلاق.

حسب جان بول سارتر، إن الدموع هي انخراطنا الصادق في العالم. أما الروائي الإسباني العجوز ميغيل أونامونو، فقد قال ببحة الصوت وعن عبث: من الرائع لو يستجيب العالم لدموعنا... أما أنا فإن العالم بالنسبة إلي هو بمثابة الروائي الشرير الذي يجيد كتابة نصوص تنشر الدموع في كل البقاع.

يَعِدُ إنجيل يوحنا، أبناء الرب، بفردوس خال من الدموع. وكأني بيوحنا هنا أراد التخفيف مسبقاً من وقع ما سيبثّه بعد قرون شخص يدعى صموئيل بيكيت. إن دموع العالم سمة ثابتة، يقول بيكيت عبر إحدى شخصيات "في انتظار غودو"، ليضيف: إذ مع كل كفّ عن البكاء في بقعة ما من بقاع العالم، ثمة شروع بالبكاء في بقعة أخرى.

قد يكون الدمع مراوغة، قد يهبط ليكون بمثابة تواطؤ العين مع المنافق. فدموع الوريث مثلاً قد تكون قناعاً يخفي بهجة الفوز بالميراث، كما قال واحد من أهل العرفان. فليست كل الدموع وفية، وليست كل الدموع صادقة. فالدموع الصادقة، حسب أحد آباء الكنسية في الخوالي من القرون، هي تلك التي تأتي مع الندى السماوي، أما تلك الكاذبة فهي بمثابة الماء الآسن الذي يتسرّب من باطن الجحيم... وفي البال، حيال هذا النوع الأخير من الدمع، بعض الساسة في لبنان، سواء أكانوا قصار القامة مساطيل، أو كانوا نجباء وفارعي الطول.

لست أدري مَنْ سمّى كوكب الأرض وادي الدموع. ربما ساهم كل واحد منّا في حرف في هذه العبارة. فالدمع عتيق، إنه البدء الذي قد ضلّ أصله في عتمات التاريخ، لكنه على الدوم توقيعنا على وثيقة إنتمائنا إلى هذا العالم، إلى هذا الوادي السحيق. قد يكون دردشة هادئة، قد يكون صخباً جارفاً، وقد يكون وسيلة هشة للإستتار. في قراءته لدموع أوديسيوس، في الملحمة اليونانية الشهيرة، قال هيدغر إن أوديسيوس كان يسعى من وراء ذرف الدموع للتواري عن عيون الجميع. لكن لوركا، لوركا الرائع، رفع عقيرته بالصياح قائلاً في "قصيدة البكاء": إن البكاء كلب هائل، البكاء ملاك ضخم، البكاء كَمان يصمّ الآذان. فمن أين للدمع من ثم أن يواري صاحب العين التي تدمع؟!

لدى التطرّق بالكلام إلى مغادرة الروح للجسد ترانا نقول، "لقد لفظ أنفاسه الأخيرة". أما قدماء الإغريق، أصدقائي المنقرضون، فكانوا يقولون في هذه الحالة "أطلق نظرته الأخيرة"، ليقال الكثير في ما بعد إذا ما كانت هذه النظرة مخضبة بالدموع... الدمع عندئذ خريطة.

بحسب إحدى القبائل في منطقة غينيا الجديدة، فإن الدمع الذي يُذرف على الموتى هو أيضاً خريطة، إنه الخريطة التي يستهدي بها الميت إلى الموطن الأصلي للقبيلة... إلى القمر، إلى الشمس، إلى قلوب الأمهات أو إلى تلك الجذور التي تحفر في الأرض عميقاً.

مخففاً من غلواء الدمع، قال الشاعر الألماني هاينريش هاينه، في القرن الثامن عشر: مهما كانت الدموع التي يذرفها المرء غزيرة فإنه عاجلاً أم آجلاً سيلتقط الأنفاس. لكن كلا، ثمة من الدمع ما لا يمكن التقاط الأنفاس حياله... دموع الأمهات المنكوبات بأبنائهن.

تخبرنا الأسطورة الإغريقية القديمة، أن Niobe ملكة طيبة، التجأتْ إلى الإله زوس، علّه ينقذها من سكب الدموع عقب موت أبنائها. لكن الأمر فاق قدرة ربّ الأرباب حيال دموع الأم، حيال دموع الأمهات، فعمد لاحقاً وبناءً على رجاء الأم الثكلى إلى تحويلها إلى صخرة. لكن، وكما أرى أنا إلى الأمر، فإن الحزن سيعترينا لدى النظر إلى تلك الصخرة الحزينة.

يا لهذه الأسرار المعلنة ويا لهذه الرقع المائية التي نحاول عبرها رتق تمزّقات وجودنا... بالإنكليزية نستعمل الكلمة نفسها لهذه التمزقات ولوسيلتنا في رتقها...Tear!!!

ثمة مَن قال إن الدمع هو لغة، وثمة من خالف هذا القول ورأى في الدمع تأويلاً بارعاً لنص العالم، لنص التاريخ ولنص الصمت.

كتبتْ دلال زين الدين في رواية "عمامة وجسد": "وحدهم الفقراء أمثالنا يوشوشون الله آخر الليل، يحكون له عن أحلامهم، وفي النهار ينشرون تلك الأحلام تحت الشمس لتيبس ويتغيّر لونها، فينسون أمرها... وحدنا نقدّس الأحلام ونأوي إليها باكراً لأننا لا نملك وسيلة غيرها للبقاء".

لن نكفّ عن البكاء، لن نكفّ عن سكب الأحلام والدموع والأمنيات الجميلة، وأقصى ما أرجوه لصديقتي الراحلة هو أن تكون، لحظة إطلاقها النظرة الأخيرة، قد لَمَحتْ عالماً آخر يبدّد ما حَفلتْ به حياتها من دمع كثير.
________________


(*) Tom Lutz, The Natural and Cultural History of Tears