أمير حماة

خيري الذهبي
الإثنين   2023/02/20
قلعة شيزر دمرها زلزال شهير العام 1157 وخرب حماة
ترك الروائي السوري خيري الذهبي، الذي غادرنا صيف 2022 في فرنسا، مجموعة من المقالات غير منشورة. وتقوم "المدن" بنشر مختارات منها بالاتفاق مع عائلة الكاتب.
هنا المقال الأول:

في ثمانينات القرن التاسع عشر، عثر المستشرقون صدفة في مكتبة الاسكوريال الاسبانية على واحدة من أهم مخطوطات الشرق مطوية ضمن مخطوطات أخرى تحت أسماء مغايرة، والتي عمل على تحقيقها مباشرة متخصصون، ومنهم الألماني ديرنبورغ، فكانت تلك المصادفة هي السبب في اخراج كتاب "الاعتبار" للأمير الشيزري أسامة بن منقذ من العتمة، الكتاب الوحيد والشهادة اليتيمة من أمير عربي على الحروب الصليبية من وجهة نظر العرب.

الأمير أسامة بن المنقذ، أمير قلعة شيزر في حماة، توفي عن 96 عاماً تاركاً لنا كتابه الرائع "الاعتبار" الذي حققه للعربية للمرة الأولى، فيليب حتي (مؤرخ بلاد الشام)، في جامعة برينستون الأميركية وخرج من مطبعتها العام 1930.

وكتاب "الاعتبار" هذا يتضمن خلاصة تجربة ابن منقذ، وما واكبه من أحداث خلال سنوات حياته الطويلة، دونما التزام من قبله بقاعدة محددة في الأسلوب أو الترتيب، وجاء كتابه نابضاً بروح الفتوة والشباب، وذلك على الرغم من تأليفه إياه أثناء فترة شيخوخته، في فترة تقاعده في مدينة دمشق التي توفي ودفن فيها.

بالإضافة إلى الحملة الصليبية؛ فقد كانت بلاد الشام مشحونة بالاجواء المضطربة التي غذَّتها النزاعات السياسية بين الإمارات الصغيرة المتناثرة، ما أدى إلى ولادة مظاهر من الفتن والمؤامرات، وهي أحداث شهدها ابن منقذ ودوَّنها في كتابه، منتقدها بشدة في فترة كانت البلاد أحود ما تكون إلى التراص والوحدة، ابتلاها الله بملوك طوائف يتنازعون الفتن والمؤامرات بين بعضهم البعض، حتى قوي الخصم الفرنجي.

كان أسامة بن المنقذ أحد ملهميّ الأساسيين في روايتي "فياض" التي يقع بضع من أحداثها في أطلال قلعته شيزر، وهو بلا ريب أحد شهود تلك المرحلة العصيبة التي عصفت ببلاد الشام، وثق بكتابه الرشيق تحرير بيت المقدس، حيث وصف سوريا الوسطى وصفاً جغرافياً دقيقاً يكاد يكون وثيقة طوبوغرافيا، حيث يقول في أحد مقاطعه: "بأن الطريق من حمص إلى دمشق كان موحشاً وبرياً لا يمكن للمرء الأمان فيه من كثافة الأشجار والغابات والحيوانات المتوحشة، حيث يحلو للفرسان صيد الغزلان البرية على تلال النبك والقلمون، وتكثر في تلك الغابات أيضاً الأسود السورية والدببة السورية كذلك". كل ذلك انتهى وانتهت تلك الغابات ومعها قلعة شيزر وتلكم الأيام، وتبقى العبرة والاعتبار لمن اعتبر وتذكر، ولنا أن نتخيل أن الطريق المقفر اليوم بين حمص ودمشق على الصورة التي وصفها الأمير أسامة، بما فيها من وحوش وحياة البراري الكاملة.

سوريا بلد لا صحراء فيه، وكل ما نراه من نافذة السيارة وهي تطير بنا من دمشق الى دير الزور، بادية، والبادية أرض زراعية ينقصها المطر والماء، ولزائر البلاد السورية في الشتاء الممطر وخصوصاً البادية شرق خط المدن السورية الممتد من درعا إلى حلب، أن يرى النباتات الخضراء وهي تنفجر من الأرض بزهورها وأحراجها.

صاحب كتاب "الاعتبار"، أسامة بن منقذ، والذي كان أجداده وأبوه مالكي وأسياد قلعة شيزر وهي قلعة مهدمة بفعل الزلزال الشهير الذي ضرب البلاد وأطاحها أرضاً، تقع على نهر العاصي قريبة من حمص وحماة.

وكانت الغزوات، خصوصاً الآسيوية، هي ما قضى على الغطاء النباتي في سوريا حيث كان الغزاة الآسيويون يقتلعون الأشجار، ويتخذون منها قنابل يرمونها مشتعلة على القلاع المحاصرة، وكان لإدخال القطارات على يد العثمانيين وحاجتهم إلى الوقود أن اقتلعوا آخر الغابات التي كانت تزين الطريق إلى دمشق واستخدموا الأشجار وقوداً للقاطرات وقد حدثني صديق من قرية في القلمون أنهم كانوا يحفرون الأرض و"هو يذكر" ذلك تماماً لاستخراج الجذور المتبقية عن تلك الغابات، وكانت بحجم أشجار كاملة. فإن كان الجذر بحجم ضخم، فلكم أن تتخيلوا حجم الشجرة ذاتها.

في 200 فصل قسم أسامة شهادته تلك عن العصر ببلاغة قل نظيرها، فيحدثنا عن المدن السورية وطرائق حياة الناس، والجرائحيين من الأطباء الجراحين، وطرق طبابتهم للجرحى والمصابين من كثرة الحروب والغزوات، وعن أنواع الأسلحة من الحراب والسيوف والسكاكين والمنجنيقات. يحدثنا كذلك عن الفرنجة، كما سمّاهم العرب، وليس عن الصليبين، كما نعتوا أنفسهم. يحدثنا عن معسكراتهم وحياتهم في الشرق عن احمرار بشراتهم من الشمس الحارقة، وعن لعبهم وسرقاتهم وطبهم وقضاتهم وتصانيفهم.

الأمير أسامة بن منقذ، أمير شيزر، عمل سفيراً لعماد الدين ومفاوضاً في تبادل الأسرى مع الفرنجة. وكان، حينما يمضي إلى القدس للتفاوض، يُخلى له جانب من المسجد الأقصى ــ الذي حولوه إلى كنيسة ـــ ليصلي فيه. وفي إحدى زياراته للأقصى اتجه إلى الجنوب يصلي، فانتبه إلى يد قاسية تمسك به في شدة ناهرة، وتديره إلى الشرق حسب القِبلة المسيحية، وثمة مَن صرخ فيه بالفرنجية: كذا صلِّ، لكن مضيفيه اندفعوا وطردوا الفرنجي واعتذروا من أسامة وهدأوه حتى يعود لصلاته، لكنه ما كاد يعود إلى صلاته حتى أحسّ بالفرنجي يشده من ذراعه موجهاً إياه إلى الشرق قائلاً: هكذا صلِّ.

وسارع المضيفون إلى طرد الفرنجي، ثم قال أحدهم مرتبكاً ومعتذراً: لا تؤاخذه رجاء، إنه حديث القدوم من فرنسا، وقالوا العبارة كما لو أنها: حديث القدوم من البلاد المتخلفة! لم يعتد الحضارة والتسامح كما اعتدنا.

وأمير حماة وشيزر، أسامة بن المنقذ، كان شديد الموضوعية عند وضعه كتاب "الاعتبار"، فالشرق الشامي على الأقل كان أرقى حضارياً وأخلاقياً بمراحل من الغرب الاسكاندينافي حديث العهد بالنصرانية. فلم يكن قد مضى على تنصرهم قرن واحد، وما زال دم الفايكنغ التدميري يسري في عروقهم فواراً، وكلنا يعلم أن عماد الحملات الفرنجية كان النورمان والفرانك، وهؤلاء هم من أنصفهم أسامة حينما قال ألا شيء يميزهم إلا القوة والشجاعة وهذه موجودة لدى الحيوان والسباع. أما العربي فما يميزه هو العقل والخلق والتفكير: "بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل".

توفي الأمير في مدينة دمشق، وبُني له قبر بقبة في سفح جبل قاسيون بالقرب من منطقة ركن الدين، حتى دُرس القبر في عصرنا الحديث بعد تحويل المنطقة برمتها إلى حديقة معاصرة.