لماذا تفوّقتْ أمّ كلثوم على مطربات زمانها؟

أشرف غريب
الخميس   2023/02/02
أم كلثوم بين زمنين
هل كانت أم كلثوم مجرد صوت قوي أُوتي من القدرة على التطريب والتعبير معاً كي يأسر القلوب والآذان؟ فلنطرح السؤال بطريقة أخرى: هل اتكأت سيدة الغناء العربي - فقط - في نجاحها الاستثنائي على ذلك الصوت الذي جمع في تميز لافت بين القوة والشجن؟

يقول الأديب عباس محمود العقاد في قصيدة له بعنوان "في الفن أنبياء" مخاطباً أم كلثوم:
أم كلثوم يا بشيراً من الله بالرجاء
أنت من وحيه ولله في الفن أنبياء
ذلك الصوت صوتك العذب من عرشه نداء
فيه سرّ من جنة الخلد لكنه ضياء
فيه للمرتجى سلام وللمشتكي عزاء

                 ()()()

أيها الكوكب الذي أسعد الأرض باللقاء.
ردد الطرف في الفضاء وما أرحب الفضاء
وأسأليه سؤال من يسأل الطير في الهواء
هل سري فيه مثل صوتك في الحسن والنقاء
في قديم الزمان أعني وفي حاضر سواء؟ 

فهل هي فعلاً مجرّد صوت غير عادي؟ لا أظنّ أنّ الأمر على هذا النحو، صحيح أنه صوت متعدّد الخصال والمزايا، لكن زمانها كان يعجّ أيضاً بالأصوات البارعة ذات الإمكانات الخاصة: مطربة القطرين فتحية أحمد، سلطانة الطرب منيرة المهدية، وكذلك حياة صبري ونادرة ونجاة علي وغيرهن، لكن الفارق بينهن وبين أمّ كلثوم أنها كانت الأوسع ثقافة والأذكى ذكاء والأعمق قدرة على امتصاص كل معلومة واستيعاب كل موقف، وتحويل هذا كله إلى خبرات متراكمة أعانتها على مواجهة كل نوات الحياة وأزماتها والخروج منها منتصرة ومتقدّمة على كل منافساتها بعشرات الخطوات. لقد كانت كل من فتحية أحمد ومنيرة المهدية وحياة صبري ونادرة ونجاة علي، بل وأسمهان أيضاً، صاحبات أصوات جميلة وقوية بالفعل، لكن أم كلثوم أدركت بذكائها الفطري أنّ الموهبة وحدها لا تكفي للنبوغ والتفرد، فراحت تسلّح نفسها بما ليس لدى الأخريات، وهو الثقافة، حتى تكون قادرة على حسن الاختيار والتوفيق في كل قرار، فرغم أنّها لم تكن متعلّمة مثل نبوية موسى أو مطلعة على حضارة الغرب مثل هدى شعراوي، إلا أن الفتاة الريفية الآتية إلى العاصمة متسلّحة بما حفظته من القرآن الكريم، قررتْ أن تضيف إليه قاعدة كبيرة من الثقافة والمعرفة حتى لو كان ذلك سمعياً في جزئه الأكبر.

وإذا كان كل من الشيخين أبو العلا محمد وزكريا أحمد والقصبجي وأحمد صبري النجريدي قد تكفلوا بصقل موهبتها الغنائية، فإنها نجحت على مدى مشوارها الطويل في أن تحيط نفسها بمجموعة من كبار المثقفين أو محبي الثقافة والساعين إليها مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق، طه حسين، طلعت حرب، علي البارودي، محمد البابلي، ثم لاحقاً مصطفى أمين، فكري أباظة، صالح جودت، إبراهيم ناجي، وكامل الشناوي، وقبل هؤلاء وبالتوازي معهم جميعا شاعر الشباب أحمد رامي الذي كان المعلم الأول والأهم لأم كلثوم والأكثر تأثيراً في وجدانها الثقافي منذ التقاها العام 1924 وحتى رحيلها في الثالث من شباط/ فبراير1975. يكفي أنّ رامي كان أول من وضع يدي أم كلثوم على عيون الشعر العربي، قديمه وحديثه، وأعانها في اختيار أنسبه للغناء للدرجة التي استوقفت واحداً من أقرب أصدقائها مثل فكري باشا أباظة الذي وصف ذلك قائلاً: "كم ألف بيت من بيوت الشعر والزجل حفظتها أم كلثوم ورددتها وغنتها، ورنمت بها الآذان والأذهان والرؤوس والقلوب؟ كم ألف بيت، والله إنها - هي - لا تدري، فمن يا ترى يضع لنا تلك الإحصائية؟!".

الفارق إذن بين أم كلثوم وغيرها من مطربات زمانها أنّها كانت صوتاً مثقفاً وذكياً، جعلها شخصية آسرة وجذابة تستطيع كسب احترام كل مجلس تكون فيه، مهما عظمت الأسماء وتعملقت الرؤوس. بل إن الأسماء الكبيرة في زمانها، من رجال الثقافة والسياسة في مصر والعالم العربي، هي التي كانت تسعى إلى مجلسها وتتباهى بذلك، وهو الأمر الذي تكرّر بعد ذلك مع مطرب آخر يبدو أنه اقتدى بها وبأستاذه محمد عبد الوهاب، وأعني العندليب عبد الحليم حافظ الذي كان عمره الفني وما زال أطول من كل معاصريه حتى لو لم يكن صوته في رصانة وقوة أصواتهم. لقد لحق عبد الحليم بزمن عبد الغني السيد وعبد العزيز محمود وكارم محمود، وعاش زمن عادل مأمون وماهر العطار وعبد اللطيف التلباني وأحمد سامي بل وحتى محمد رشدي، لكنه كان الأكثر نجاحاً وتأثيراً، لا لشيء إلا لأنه استفاد تحديداً من تجربة أم كلثوم وعبد الوهاب (ربيب أمير الشعراء أحمد شوقي) في اقتران الموهبة بالثقافة، حتى وإن كانت سمعية في جزئها الأكبر. وإذا شئت مزيداً من الأدلة، فعليك المقارنة بين الأثر الذي تركه نجيب الريحاني من جانب، وبين معاصريه أمين عطا الله وفوزي الجزايرلي وعلي الكسار، لتعرف أن الثقافة والمعرفة هي القادرة على أن تصنع الفارق بين موهبة وأخرى.

وفضلاً عن ذلك، فقد نأت أم كلثوم بنفسها عن مهاترات السياسة وأبوابها الخلفية، على الرغم من صداقاتها الواسعة مع كثير من الزعماء العرب ورجال الحكم، لكنها كانت علاقات قائمة على الاحترام المتبادل وتقدير فنها الراقي، وليس على شاكلة منيرة المهدية –مثلاً- التي تباهت طويلاً بعلاقتها بالزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، أو مجلس الوزراء المصري الذي كان يجتمع أحياناً في عوامتها الخاصة، كذلك أسمهان التي انغمست في لعبة السياسة وتشعبت في علاقاتها مع غالبية اللاعبين، فراحت ربما ضحية تلك العلاقات على الرغم من قدراتها الصوتية الفائقة التي كانت تؤهلها لمنافسة كوكب الشرق. ومن ثم لم تسمح أم كلثوم لنفسها بأن يشتت تركيزها أي عامل آخر، أو يشغلها شاغل عن فنها، فبقيت دولتها الغنائية على قوتها ورسوخها على مدى قرن كامل من الزمان سواء في حياتها أو حتى بعد مماتها الذي مضى عليه الآن ما يقرب من نصف قرن.

لقد تركت لنا أم كلثوم تجربة ملهمة وواضحة يصح أن تكون أمام عيني كل موهبة ناشئة، وخلقت حالة فريدة من النجاح يمكن أن تبقى النموذج الذي يسير عليه كل راغب في التفرد والخلود.