كلّ هذا الموت…

أسعد قطّان
الأحد   2023/02/19
جزء من لوحة الخلق لمايكل أنجلو
«مات الذين أحبّهم واللوز يزهر كلّ عام بانتظام» (محمود درويش)
إلى م. س. 
تجمهر الناس كي يسمعوه. لقد طبّقت شهرته الآفاق قبل تقاعده من منصبه الجامعيّ في كلّيّة اللاهوت الإنجيليّة في مدينة توبينغن جنوب غرب ألمانيا. أمّا اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ الفرنسيّ الذائع الصيت أوليفييه كليمان، فكان يستشهد به ويقتبس مقاطع من أعماله المترجمة إلى غير لغة. غصّت القاعة بالحاضرين. الناس الذين لم يجدوا لهم مكاناً يجلسون فيه، وكنّا منهم حفنةً من طلبة الدكتوراه، اقتعدوا الأدراج المحيطة بالقاعة كي يلتقطوا كلماته الوئيدة تنبعث من مكبّرين للصوت وُضعا على المدخل. 

وُلد يورغن مولتمان العام 1926 في عائلة تكاد تكون ملحدة. واكتشف المسيحيّة في معتقله البريطانيّ بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية. هل هذا ما استثار انتباه أوليفييه كليمان، الذي أتى أيضاً إلى المسيحيّة الأرثوذكسيّة من إلحاد أبيه والشمس المتّقدة بالشمس في موطنه الدافئ من أعمال جنوب فرنسا؟ في ذلك اليوم، قال مولتمان إنّ الموت هو أكبر تحدّ للفكر الفلسفيّ بعامّة، واللاهوتيّ بخاصّة. فالسؤال عن معنى الحياة لا قيمة له من دون المرآة التي نقرأه فيها، ثمّ نعيد قراءته مرّةً تلو مرّة كأنّنا نتهجّأه من جديد، وهذه المرآة هي الموت. وقال إنّ الموت ليس مبرّر الطبّ فحسب، بل هو أيضاً مبرّر الفنّ، ومبرّر الأدب، ومبرّر التفكير اللاهوتيّ بطبيعة الحال. فهذه كلّها إن هي إلّا أدوات نستخدمها كي نتدبّر معضلة الموت. 

يومذاك، تحدّث مولتمان أيضاً عن موت الأطفال، عن الأطفال الذين يقتلعهم الموت عنوةً من أحضان أمّهاتهم بسرطان الدم، بالزلازل، بالحروب التي لم تنتهِ بعد على الرغم من سقوط جدار برلين وتخلخل العمارة السياسيّة الشيوعيّة. وتحدّث عن موت أحبّائنا الذين يكسر الموت حكاياتهم ويبعثرها في خواء أيّامنا. ما معنى هذه الحكايات المكسورة حين ننظر إليها في مرآة الموت؟ كنّا نتوقّع جواباً ينبثق من إيقاع شفتيه اللتين لم نكن نراهما. لكنّ الجواب لم يأتِ. قال اللاهوتيّ العظيم إنّ السرّ سيبقى سرّاً. لكنّ الله الذي كشف ذاته في التاريخ من دون أن يخرج من احتجابه سيكمل هذه الحكايات بطريقة لا يدركها سواه. كلّ هذا الموت، كلّ هذه الأقدار المشظّاة، كلّ هذه الحكايات التي قصمها الموت وحال دون بلوغها نهايتها، سيتلقّفها الله، ويستكملها مع أصحابها في «مجرّة» أخرى، ويصل بها إلى غاياتها على نحو لا نستطيع نحن سبر أغواره. فلئن كان هذا العالم الذي نعيش فيه هو عالم الحكايات المرضوضة بالمرض والألم والموت، إلّا أنّ الله سيضمّد جراح هذه الحكايات، ويمسحها بالزيت، ويكتب مع أصحابها سطورها الأخيرة، فتتوهّج من جديد. ربّما يكون العالم المخلوق ممهوراً بخاتم العدم الذي أتى منه، لكنّه منسوج أيضاً بحكايات لا تحصى لا بدّ لها من أن تصل يوماً إلى خواتيمها حتّى تستقيم قصّة الخلق ويكون للحكاية معنًى.

كان هذا الكلام في يوم دافئ من أيّام شهر حزيران (مايو) من العام 1999 في مدينة شتوتغارت الألمانيّة. منذ ذلك الوقت، انكسرت من حولنا حكايات كثيرة لبشر نحبّهم وبشر لا نعرفهم، مع أنّنا كثيراً ما نرى وجوههم في صور تتدفّق بين صفحات الجرائد، على شاشات التلفزة، وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ. لكنّ الكلام لم يفقد شيئاً من آنيّته على الرغم من تقادم الزمن. لذا، كان لا بدّ من أن يحكي أحدهم هذه الحكاية…