هل يعاقبنا الله بالزلازل؟

أسعد قطّان
الأحد   2023/02/12
Michele Pietro Cammarano Earthquake in Torre del Greco, 1851,
«إنّ الإله الذي عرفته في دلفي لا يقول إيجاباً ولا سلباً، بل يرمّز» (هيراقليط)
لئن كانت الكتب المقدّسة في الأديان التي ندعوها «توحيديّةً» تتّفق على أنّ الله هو مصدر الكون، إلّا أنّ هذا الصدور لا يشبه نظريّة الفيض في الأفلاطونيّة المحدثة. بكلمات أخرى، الكون ليس مرتبةً دنيا من مراتب الوجود الإلهيّ، بل هو «مخلوق»، أي إنّه يختلف جوهريّاً عن ذات الله. ومن ثمّ، فالكون ليس كاملاً، لأنّ الكمال لله وحده. والعناصر التي يتألّف منها خاضعة لقاعدة التحوّل والتفكّك والاندثار. هذا يعني أنّ الكون فيه مكان لاحتمالات الخطأ والصواب، للصدفة، للشواش والتشوّش، وللعدم الذي يختبئ في ثنيّات الوجود ويتراءى لنا كلّما شعرنا بأنّ الطبيعة تتمرّد على نواميسها، وتثور على ذاتها عند قيام الزلازل وتفجّر البراكين وحدوث الفيضانات. ينتج من هذا أنّ النظام الكونيّ الذي تتغنّى به الكتب المقدّسة وتعتبره «آيةً» من آيات الله في خليقته، وعلامةً من علامات حضوره، إن هو إلاّ نظام نسبيّ، وذلك على الرغم من ارتكازه إلى قواعد فيزيائيّة يستطيع العلم سبر أغوار الكثير منها وتوصيفها رياضيّاً. هذه النسبيّة قائمة في جوهر الأشياء ذاتها، لأنّ الله هو المطلق الوحيد.

في كتاب التكوين، مثلاً، يخلق الله عناصر الكون ويرى أنّ ما خلقه «حسن». لا نقرأ في النصّ أنّ الله يعتبر أنّ ما خلقه كامل أو مطلق. هذا غير وارد في منطق الكتب المقدّسة، فالكمال والإطلاق صفتان تُنسبان في اللاهوت إلى الله حصراً. ومن ثمّ، مَن يبحث عن عالم بلا زلازل وبراكين وكوارث طبيعيّة وأمراض مستعصية ووجع وموت، لا بدّ من أنّه أخطأ ضالّته في هذا العالم الذي نعيش فيه. بيد أنّ الكتب المقدّسة لا تتوقّف هنا. فكتاب التكوين يؤكّد أنّ صورة الله في الإنسان تقوم في أنّ الله «سلّطه» على الكون، علماً بأنّ هذه السلطة ليست تسلّطاً، إذ سرعان ما يشير الكتاب ذاته إلى أنّ الله وضع الإنسان في حديقة، وفوّض إليه أمر زراعتها وحراثتها. والقرآن الكريم واضح في أنّ الله استخلف الإنسان في هذا العالم وخاض مغامرة إيكال أمر الكون إليه على الرغم من اعتراض الملائكة. مشروع الله للإنسان، إذاً، هو أن يعتني بالخليقة ويحافظ عليها ويحسّنها، أن يمعن في تجميلها حيثما تتبدّى جميلةً كالعروس، وأن يحدّ من بشاعتها كلّما طغى فيها التشويش على التنظيم والمرض على العافية. هذا يتسنّى للإنسان، طبعاً، عبر تعميق المعرفة العلميّة وتسخيرها في سبيل الخير. لكنّه يتحقّق أيضاً عبر التعاضد الإنسانيّ العميق الذي يبقى المعيار الأوّل لإنسانيّة الإنسان. ولعلّه المعيار الأوحد في أزمنة كالتي نعيشها اليوم، أزمنة الزلازل والأمراض السرطانيّة التي يدرك فيها الإنسان أنّ كلّ ما حصّله من علوم لا يردّ عنه خطر الكوارث الطبيعيّة والأوبئة الفتّاكة، التي ما زال الطبّ يخوض معركته ضدّها، أو يحار في أمرها. 

أين الله من كلّ هذا؟ إنّ الحجّة الفلسفيّة التي تذهب إلى أنّ الله يستعلن في تنظيم الكون وما ينطوي عليه من جمال، إذا كانت صائبة، فهي بالتأكيد لا تعبّر إلاّ عن نصف الحقيقة. النصف الآخر هو أنّ الله يحتجب أيضاً في الكون الذي خلقه. فهذا الكون، من حيث إنّه يختلف جذريّاً عن ذات الله، لا يكشف حضور الله إلاّ كشفاً جزئيّاً. بكلمات الراهب مكسيموس المعترف (نحو ٥٨٠-٦٦٢)، الله «يتراءى محتجباً ويحتجب مترائياً». جدليّة الظهور والاحتجاب هذه، التي تضرب جذورها في أنّ لا شيء في هذا الكون يشبه الله، هي أيضاً مصدر الأسئلة المشروعة التي يطرحها البشر كلّما شعروا بأنّ الله غير موجود، أو بأنّهم متروكون لمصيرهم المحتوم فيما هو غائب. 

لعلّ هذه الأسئلة ستبقى أسئلةً ما دمنا قابعين في أزمة محدوديّتنا البشريّة. والحقّ أنّ المسيحيّة، التي قالت بالتجسّد، أي بأنّ الله هتك الحجب ووحّد ذاته بالإنسان وصولاً إلى اختبار الموت عبر موت يسوع الناصريّ على الصليب، هي أيضاً لا تمتلك أجوبةً قاطعةً تداوي المأزق الإنسانيّ المتأتّي من خبرة الألم والموت والشعور بالوحدة والمتروكيّة. لكنّها تزعم، وهذا هو بيت القصيد، أنّ طبيعة السؤال تتغيّر حين يكون الله، بمعنًى ما، هو نفسه مَن يطرحه معنا، وذلك حين مات ابنه على صليب الموت هاتفاً بأبيه من عمق المأساة الإنسانيّة: «إلهي إلهي لماذا تركتني». الصليب، إذاً، لا يبطل متروكيّة الإنسان، بل يعطيها كلّ حقّها. لكنّه يدعونا أيضاً إلى تدبّرها بواسطة المحبّة التي كشفها المسيح حين غفر لصالبيه، داعياً إيّانا إلى اعتناقها والإفصاح عنها عبر الإمعان في التكاتف، في التعاضد،  وفي كلّ ما يجعل الإنسان إنساناً، أي آيةً من آيات الله ونوراً من أنواره.

هذا الإله الذي لا يشبه تصوّرات البشر عن الله، لكونها غالباً ما تنبثق من نزواتهم وشهواتهم، لا يعاقب بالزلازل ولا بالبراكين ولا بالحروب، التي هي من صنع البشر وحدهم. أين هو إذاً؟ لعلّه اليوم ينظر بحنان إلى الذين يرفعون الأنقاض بحثاً عن الحياة في جوف الموت، ويسند سواعدهم الكليلة بالتراب والثلج. لعلّه اليوم يضمّ الأطفال الذين قضوا بالزلزال لئلاّ يفتقدوا في رحيلهم دفئاً عميماً كان لهم وهم بعد في أحضان أمَهاتهم…