علي الجندي... ذكرى إمبراطورية مهزومة

أكرم قطريب
الأربعاء   2023/02/01
"طالما أن هناك مديراً غائباً فلن أقرأ شعراً فيه" وكان عبد الكريم الضحاك في السجن حينها.
1) 
"وهذا أنا،
رهيفٌ كسيفٍ حزين"
 
ألهمتني قصائد علي الجندي، أيام الجامعة، وساعدتني على حبّ الشعر، والتي بدت مثل مسودات، وصاحبها لم يجد الوقت لإعادة النظر فيها، تركها مثل أغنية شريدة في البرية. بقيت حياته الظل الموازي لشعره المكتوب على عجل، وحماسه القليل، وتخففه من مسألة الدعاية لنفسه، أبقته نائياً عن ضوء النقد إلا في حدود قليلة، بينما الصفقة الأساسية التي عقدها علي الجندي كانت في أسلوب العيش الذي كان أقرب ما يكون إلى بوهيمية وثقافة وجودية ومؤثرات أجنبية دمجها برموز تراجيدية أخذها من التراث الشعري العربي وأسقطها على الواقع السياسي والاجتماعي الذي كان يرسم مصير البلاد تلك الفترة. 

ستلمح في تلك السطور المنفردة حرائق مشبوبة وأعماقاً ممزقة لم يسع لإنقاذ نفسه أو ينجو بها، كما فعل أصدقاؤه الشعراء، لا بيت ولا سكن واضح، كان يشبه إلى حدّ بعيد الشاعر الذي قرأناه في الكتب والأساطير والمرويات.

2)
 
"وهكذا فإن آخر الطريق دائماً مجرة من الظلام والصقيع والندم،
وأن كل غرسة نغرسها في تربة الألم
تولدُ ميتة"
 
ولد لعائلة منكوبة بالسياسة فذهبت تلميحاته  إلى شعره – أناشيد محمومة بالنار والوحل والجسد والهزيمة.

الأكثر إرباكاً، الجوانب المنطقية لما يعنيه أن تكون شاعراً وكاتباً في تلك البقعة من الجغرافيا. أدخَلَ فكرة الشاعر المرعوب من الحياة اليومية، لأن شعره بمعنى ما يحمل أعباء ماضيه بطرق لا مفر منها: الفيضانات اللغوية وقوافل من التشبيهات المجازية والشوق الجنسي، التواريخ والإشارات المتهالكة في إيقاع شعري أقرب ما يكون واحدياً، مثل منزل على حدود الصحراء، أو مسقط رأس رمزي لم يألف أن يغادره. ثمّة قوّة كيميائية لتلك النسمة الغريبة التي لها علاقة بتعريفات الشعر الأساسية، مع أنه لم يتبنَّ أو يلتحق بأي نظرية شعرية، أو تمثلات التصنيفات النقدية، سكب كل هذا الشعر في لغة هي أشبه بحداءات، وقد تُثار أسئلة إضافية مرتبطة بكل هذا الماضي الذي سأنتبه فيه إلى ذلك الخيط الذي يربط كل منجزه المكتوب بأسلوب المقاطع أو الأناشيد الطويلة ذات الأصوات المتعدّدة، إلى محاولاته الجدية المبكرة في الاستفادة من بعض رموز الشعر العربي القديم تحديداً في ديوانيه "الحمى الترابية" و"طرفة في مدار السرطان".

في ما بعد، أعتقد أن السبعينيات حددت معظم خياراته تجاه قصيدته، ومثل يائس من كل شيء سيكتب على مضض وبشكل لا يمكن المساومة على أهمية هذا الهروب، لم يخرج من دوامة هذا النفق.

بدا علي الجندي مثل ذكرى إمبراطورية مهزومة بقي منها ظلال وأحاديث خفيضة على مضض، واختياره هذا كان واضحاً، تلتقي به وكأنك أمام تاريخ موثوق بالندم. كل الشعر الذي كتبه كان هو، على ما تراه أو تلمحه فيه. سترى أطياف الشعراء الذين أحبهم من طرفة بن العبد، وقطري بن الفجاءة، خليل حاوي في "أليعازر"، مروراً ببودلير، والماركيز دوساد، وإليوت في "الأرض اليباب". كل هذا الشعر كان غطاء شجاعاً لخيبة الأمل العميقة، لكن لم يكن هنالك أي مشروع مركزي لقصيدته، التي ستقرأ فيها، فجأة، سطوراً تتفجر شعرية وغالباً ما تكون مفتوحة النهايات.

الصدق الشخصي والألم والشاعرية البليغة مفاتيح أساسية بنى من خلالها صروحاً غير مكتملة تبدو في أكثر الأحيان مثل مسودات لقصائد غير منتهية.
3)
 "دائماً كنتُ وحيداً" 
 هذا الشعر الذي هو جزء من الشتات العاطفي وميراث الكتابة وحياة هي في مقدار حسرة القلب.
 تخلى عن كل شيء ولجأ إلى قصيدته كمكان، لكنه بلا جدران، حيث الجمال والرعب معاً، وسيبقى هو بلا مأوى ويموت أمام البحر الأبيض المتوسط  دون أن ينتبه لموته أحد.

 
*
مشاهد
أيام المهرجان الشعري الأول في مدينته "سلميّة"، في المركز الثقافي العربي القديم صعد إلى المنصة وبدلاً من أن يقرأ قصيدة ألقى كلمته الشهيرة: "طالما أن هناك مديراً غائباً فلن أقرأ شعراً فيه" وكان عبد الكريم الضحاك في السجن حينها. هذه الكلمة المقتضبة أربكت إدارة المركز وهبّ الجمهور بعدها بتصفيق حاد.

*
أحد الأيام كنتُ جالساً في مقهى "الهافانا" في دمشق قبيل الغروب وإذ هو والشاعر فايز خضور يمشيان على الرصيف الذاهب باتجاه سينما الكندي، وهما في غيبوبة ضحك عالٍ.

*
قبيل هجرتي إلى أميركا بأيام قليلة سهرتُ سهرة وداعية في "مطعم وحانة سقراط" مع الأصدقاء منتصف السهرة وإذ بعلي الجندي يدلف باتجاه طاولة مجاورة ومعه زوجته وابنته الصغيرة من زواج متأخر برفقة المترجم عبد الكريم محفوض وشخص آخر لم أعرفه، فيما بعد دُمجت الطاولتان، لتنتهي السهرة قبيل الفجر بقليل. لم يبق من كل ذلك سوى بضعة صور حزينة.

*
عرفتُ في ما بعد أنه استقر في مدينة اللاذقية مع زوجته وابنته، فقررت الذهاب لزيارته سنة 1997 وإجراء حوار معه نُشر فيما بعد في جريدة "السفير" اللينانية .

أحد الأصدقاء يعرف مكان سكنه ورقم هاتفه، ذهبنا سوية للقائه طرقنا الباب ففتح هو بنفسه لنا وأصرّ علينا أن ندخل ريثما يكون جاهزاً للخروج، لم تصدق ما رأته عيناي، أحسستُ بشيء ما انكسر في داخلي، ولم أستوعب فكرة أن يواجه شاعر بمكانته مثل هذا المصير البائس، مفردات حياته تلك اللحظة لم تكن بمستوى صاحب "طرفة في مدار السرطان". أُصبت بخيبة أمل كبيرة. مشينا باتجاه "مقهى القصر" وجلسنا هناك لحوار مقتضب عن الماضي الشعري كله بإيجاز، وبعض الحاضر، كان متعباً ومنكسراً وبكثير من خيبة الأمل. أخذتُ معه صورة بقيت معي إلى الآن.

(*) شهادة مقدمة لكتاب قيد التحضير عن سيرة علي الجندي الحياتية والشعرية يعده الشاعر السوري مازن أكثم سليمان.