خبز فرنسا.. سلاح الدولة السري وثورة المساواة

بشير البكر
الإثنين   2023/01/30
يُعدّ "الباغيت" أحد اختراعات الثورة الفرنسية، كشكل من أشكال المساواة (غيتي)
الخبز مكون أساسي في الحياة الفرنسية، مثلما هو الرز والبرغل لدى بعض الشعوب. وحين يدخل المرء مطعماً فرنسياً، فإن الخبز يحل أولاً فوق الطاولة بمعية الماء. ولذلك علاقة بما تحتله المعجنات من مكانة لدى الفرنسيين، الذين يأتون في صدارة العالم على مستوى انتاجها واستهلاكها والتفنن في صناعتها. ورغم ذلك يبقى الخبز بلا منافس ولا يمكن الاستغناء عنه، ولطالما كان سلاحاً في يد الحاكم والمحكومين، ففجّر الثورات وألهم الأدب والفن، وأشعل الحروب والغزوات. ويمكن اعتباره مؤشراً لقياس الوضع المعيشي بشكل عام، ولذا جرى النظر إلى تظاهرات الخبازين في باريس، الأسبوع الماضي، على أنها جرس انذار.

وتُفاخر فرنسا بخبزها، مثلما تُفاخر بصناعات الجبن والنبيذ والعطر والأناقة والفن، وهناك متحف خاص بالخبز في الدائرة الثامنة عشرة في باريس، يرفع لافتة "مكان مخصص للخبز وثقافته وصناعته ومتعته". ولا تكاد تخلو مدينة فرنسية من بيت خاص بالخبز الذي تنتجه، وهو يتنوع عادة حسب التقاليد الخاصة بالمكان، ليرتبط بالعادات والتقاليد وتطور المطبخ. ومهمة هذه الأماكن هي توثيق تاريخ الخبز، ولكنها تهدف للحفاظ على تراث الخبز الذي يرجع إلى قرون عديدة.

ورغم أن التطور قضى على الكثير من مظاهر الحياة التقليدية، إلا أن الخبز ظل يحافظ على خصوصياته كصناعة، وبقيت المطحنة تعمل والمخابز تنتشر ويزداد عددها، وهناك احصائيات تتحدث عن ارتفاع معدلات استهلاك الخبز، رغم غزو الطعام السريع لحياة الأجيال الجديدة. واللافت هو عدم اختفاء طوابير الخبز في ساعة معينة من النهار، مثلما هو الحال بالنسبة للمسرح والسينما.

ويعود تاريخ نقابة الخبازين إلى القرن الثالث عشر. ويأتي اسمها من Picard boulenc القديم، والذي يعني كرة العجين، وهي الشكل الوحيد المعروف حتى القرن الثامن عشر، حينما تحولت فرنسا إلى "الباغيت" (الرغيف الطولاني على الطريقة الفرنسية)، والذي يعد أحد اختراعات الثورة الفرنسية، كشكل من أشكال المساواة بين السكان. وحددت الدولة التي كانت تحتكر صناعة الخبز مواصفات "الباغيت" وسعرها حتى لا يحصل تمييز بين مواطن وآخر.

وقد يجد خباز اليوم في حي من الأحياء، اهتماماً خاصاً دون غيره من الخبازين في الشارع ذاته، فيحظى بجمهور خاص يقف فيالصف كل مساء من أجل التزود بالخبز الساخن. ويكون أحياناً كل ما ينتجه المخبز من معجنات محل اهتمام، وربما نوع واحد لا أكثر. هذا هو حال الخباز التونسي مكرم العكروت، الذي يقع مخبزه في الدائرة الثانية عشرة من باريس، في حي تسكنه فئات مختلطة ليست من تلك الميسورة او حتى الطبقة الوسطى. وسر الجاذبية التي يحظى بها هو أنه استطاع أن يصل إلى الناس من خلال وصفة خاصة في صناعة "الباغيت"، وهذا ما أهّله للفوز في مسابقة أفضل صانع "باغيت" في فرنسا العام 2021، وبذلك اختاره قصر الرئاسة الفرنسية "الأليزيه" ليكون مزوده الحصري بالخبز لمدة عام.

تربط الفرنسي بالخبز علاقة خاصة، تبدو أكثر عمقاً من بقية شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، التي أضحى الخبز لديها منذ القدم معادلاً للحياة، ويبدو الخبز في فرنسا وبعض بلدان حوض المتوسط مثل إيطاليا، على صلة بالفن، وتخضع عملية العجن والتخمير وتحضير الفرن، واختيار القمح وطريقة الطحن وتخزين الدقيق لمواصفات ومعايير مدروسة، وهذا ما ينعكس في الطعم واللون والرائحة ودوام النكهة والطزاجة.

ثمة مخابز، تُشبه من الداخل، محترفات الفنانين، التي تتكدس فيها لوازم تكوين وتشكيل وبناء اللوحات قبل أن تخرج للعرض، وعادة ما تكون أماكن ذات مواصفات صحة ونظافة خاصة، تخضع لانضباط ورقابة دائمة من الجهات المعنية.

الأغلى بين أصناف الخبز هو المصنوع من القمح الطبيعي، الذي لم تتم سقايته بمياه اختلطت فيها الأسمدة الزراعية، ومن الشعير والنخالة، وتراجع في العقدين الأخيرين جمهور الخبز الأبيض، بسبب نسبة السكر العالية، التي يعود بعضها إلى أسباب تتعلق بنوعية القمح أو إلى إضافة مواد سكرية من أجل الحفاظ عليه لفترة طويلة داخل الثلاجات. ويحكم الفرنسيون على جودة الخبز من خلال ثلاثة معايير هي النضارة، المظهر والمذاق، وجودة الدقيق الذي يلعب دوراً حاسماً في صناعة الخبز الجيد.

في الأعوام الأخيرة، تأثر الخبز، مثل جميع المنتجات الغذائية تقريبًا، بالمخاوف الجديدة للفرنسيين، الذين يرغبون في تفضيل نظام غذائي صحي وصديق للبيئة، ويستجيب الخبز "العصري" مباشرة لهذه المخاوف الجديدة، ولذلك نجد في المخابز اليوم المزيد من الخبز "الطبيعي" الخالي من الإضافات أو المواد الكيميائية. ويحضر إلى جانب خبز القمح والشعير، خبز البذور: السمسم، الكتان، الخشخاش، القرع. وهي بذور معروفة بقيمتها الغذائية، بالإضافة إلى الخبز العضوي: الخبز مع الدقيق العضوي، الذي يراعي حماية البيئة وصحة المستهلك، وهي المنتجات التي تحظى برواج سريع.

وكدليل على مكانة الخبز، هناك مسابقة سنوية خاصة بالخبز على مستوى فرنسا، تدور من أجل اختيار أفضل مخبز وأفضل خباز، تلك التي فاز بها التونسي مكرم العكروت. وهي تدور أولاً في مكاتب نقابة الخبازين وصانعي الحلويات في منطقة باريس الكبرى، في وسط العاصمة الفرنسية، حيث يجرى تلقي كل قطع خبز "الباغيت"، والتي توضع أرقام لها من دون كشف أسماء الخبازين الذين حضروها. وتتولى لجنة مؤلفة من 12 متخصصاً في القطاع، ومن سكان العاصمة الفرنسية، تذوق قطع الخبز المختلفة، ووضع علامات لها تبعاً لمعايير خمسة: المظهر والرائحة ودرجة الطهو والتجويفات في داخل الجزء الطري من الخبز، والمذاق بطبيعة الحال. ومن شروط المسابقة أن تكون كل قطعة خبز مصنوعة بالطريقة التقليدية، بزنة تراوح بين 264 غراماً و314 وطول يراوح بين 55 و70 سنتيمتراً.

وسبق أن توج تونسيون آخرون بهذه الجائزة، منهم رضا خضر الذي ظفر باللقب في 2013، وحمود المسيدي في 2018. وهذا يدل على تطور ثقافة الخبز في تونس، التي استفادت من التقنيات الفرنسية والإيطالية، وأضافت لها خلاصات الخبرة العربية المديدة، والتي تختلف وتتنوع من بلد لآخر، وتبعاً لمستوى الدخل وتطور البلد، ومدى اهتمامه بزراعة القمح.

فرنسا هي الأولى عالمياً في الاهتمام بالقمح وزراعته، ويعد القائمون على هذه المسألة زراعة القمح دليل تحضر واستقرار، وكانت من قديم الزمان من بين أولى دول العالم التي تصدّر القمح إلى الخارج، كما أنها نقلت البذور إلى المستعمرات. وتعد الحنطة الفرنساوية الأشهر في سوريا البلد المنتج للقمح، نظراً إلى أنها تنتج بشكل وفير، وتحتاج إلى كمية أقل من المياه ومقاومة للآفات الزراعية والحشرات.

يعود تاريخ الخبز إلى ما قبل الميلاد، وإلا لما جاء في الانجيل "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان"، وتؤكد دراسات في تاريخ الخبز أنه كان معروفاً في روما ما قبل الميلاد في البيوت الغنية، وأول من اخترع الطواحين الهيدروليكية هم المهندسون الرومان. لكن أغلب الدراسات تتقاطع حول أن أول من زرع القمح هم المصريون، وكان اليونانيون يستوردونه من مصر، ولذلك يمثل ضرورة حياتية أساسية بالنسبة للأسرة المصرية.

يشكل الخبز أكثر من نصف الطعام في نصف دول العالم، وهو أساس الطعام لدى عدد من الشعوب ويمثل حوالى 1200 سعرة حرارية، وتأتي تكاليف الخبز عند بعض الأسر في مراحل تاريخية معينة بعد اللحم، وفوق ذلك يعد الخبز مقدساً عند كثير من الشعوب، ويبلغ الأمر درجة حتى أن بعض الشعوب تعد فتات الخبز طعام النبلاء.