"مجانية أم خصخصة": تاريخ مصري للرفاه

شادي لويس
السبت   2023/01/28
تدشين قناة السويس العام 1869 (الفنان مجهول - غيتي)
بعد سلسلة من العنوانين الاقتصادية في الأعوام القليلة الماضية تضمنت، "ملاك مصر" و"نشتري كل شيء" و"ماذا جرى لمشروع طلعت حرب؟"، تعود دار "المرايا" القاهرية بإصدار جديد يركز على الاقتصاد السياسي المصري وتأريخه الحديث، وهو كتاب "مجانية أم خصخصة: تاريخ الصراع على نموذج الرفاه المصري".

والكتاب، مثل كتب سابقة صادرة عن الدار وتُعنى بالتيمة نفسها، يلتزم بطموح التوجه إلى الجمهور العام من غير المتخصصين، بغية كسر الاستئثار التكنوقراطي بملف الاقتصاد على مستوى الخطاب العام، وبالأخص مع صعود الاقتصاد على سلم الأولويات السياسية الأكثر إلحاحاً في مصر الآن. في سبيل هذا، يستعين الكتاب بلغة واضحة ومباشرة، مع بُنية من التعريفات الأولية للدولة ولنظام الرفاه والسياسات الاجتماعية وغيرها من الاصطلاحات المتعلّقة بموضوعه، مع شروح موجزة للنظريات والأطروحات الأساسية في الحقل المعرفي. وأيضاً يحرص محرر الكتاب، الصحافي والباحث الاقتصادي محمد جاد، على الاستعانة بعدد من المؤلفين متعددي التخصصات البحثية، لتناول الظاهرة من أكثر من زاوية رؤية، منها التاريخي ومنها الأكثر آنية، فترسم الفصول الخمسة صورة أقرب إلى خريطة منها إلى سردية خطية. 

في الفصلين الأول والثالث، يقدم محمد جاد تاريخاً للسياسات الاجتماعية في مصر، مركزاً بشكل أساسي على تقديم خدمات المرافق، مثل وسائل النقل العام والكهرباء وشبكات المياه، وأدوار الدولة في الإنتاج والإدارة الملكية، وعلاقاتها بالشركة وتبدلاتها، من ضبط السوق إلى الاستيلاء، وصولاً إلى خصخصة مؤسسات الدولة نفسها. خصخصتها لا بمعنى بيع أصولها فقط، بل التحول في طريقة إدارتها لتتم طبقاً لقواعد السوق وحوافزه، وكأن الدولة أقرب إلى الشركة. ويحيلنا الفصلان إلى ما تتأسس عليه هذه التحولات من مرجعيات أيديولوجية تتعلّق بتعريفات المجتمع والفرد.

يدحض الفصلان سرديتين شائعتين. الأولى نسبة المجانية، أي مجانية الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، والسياسات الاجتماعية عموماً، إلى دولة يوليو بشكل حصري. فما يثبته السرد التاريخي للكتاب هو أن تلك السياسات تعود إلى حقبة الأربعينيات، حينما أجريت أولى عمليات التأميم للمرافق في مصر، اقتداء بسياسات الرفاه في أوروبا بعد كساد العقد السابق، وكذلك استجابة لعدد من المحددات المحلية. بل إن مسألة مثل تأميم قناة السويس كانت تمّت مناقشتها علناً من قبل الحكومة المصرية في الفترة المَلَكية. أما السردية الأخرى التي يفككها الكتاب، فهي السردية المضادة، الموجهة نحو التركيز على نقائص منظومة الرفاه الناصرية. ففي الفصل الثالث، يقر جاد بأن "الاشتراكية العربية" كانت قفزة هائلة في السياسات الاجتماعية في عقد الستينيات، لم تأت فقط بـ"ثورة يوليو الكهربائية" كنموذج لتعميم الخدمات الأساسية، بل أيضاً شجعت "اشتراكية الاستهلاك" لتحفيز الطلب على الكماليات.

يقدم الفصل الثالث تفصيلاً لجذور المشكلة المالية للرفاه، أو بمعنى آخر كيف تحوّل الرفاه إلى مشكلة، نتيجة عجز الدولة عن تعظيم مواردها لتمويل المرافق والخدمات العامة. ومن ثم يتتبّع التحوّل من التعميم والمجانية، إلى الخصخصة، في سياق التغيرات في السياسات الاقتصادية عالمياً، وبالأخص بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. 

ثورة يوليو
يناقش الفصلان الثاني والرابع، المسألة من زاوية الخطاب. فتحلّل فريدة مقّار، النقاشات الدائرة بين التربويين حول "ديموقراطية التعليم" بين العامين 1940 و1952، وهي بذلك تفكّك سردية تاريخية أخرى تم ترويجها بعد ثورة يوليو، وهي تقسم أطراف النقاش إلى فريقين. الأول بقيادة طه حسين، وهو الفريق الداعي إلى تعميم مجانية التعليم، والثاني بقيادة إسماعيل القباني، والذي طالما اتّهم بالدفاع عن نوع من أرستقراطية تعليمية، أي إنشاء تعليم للأشراف وآخر لعامة الشعب. تغيّر مقّار حدود التقسيم، وتؤطره في النقاش بين الكم والكيف، لتؤكد أن مسألة مجانية التعليم ومسؤولية الدولة عن تعميمه، كانت نقاشاً محسوماً قبل عقد من يوليو، وأن الجدل الدائر كان حول الإمكانات المتوافرة. ذلك النقاش الذي كان من شأن إسكاته، تداعي خدمات التعليم لاحقاً، ومعه نموذج الرفاه إجمالاً.

أما في الفصل الرابع، فتقوم نهال الأعصر بتحليل الطرائق التي قامت بواسطتها الدولة وأدواتها الإعلامية بتغيير خطابها، بعد توقيع أول اتفاقاتها التمويلية مع صندوق النقد في العام 1987 ومن ثم مواجهتها الاقتصادي العالمي الجديد، وهو ما تطلب التحوّل من تمجيد الاشتراكية والدولة والمجتمع إلى الترويج للمسؤولية الفردية ونقد الاستهلاك والبيروقراطية الحكومية والاتكال على الدولة. وبذلك تكشف عن أن التحوّل عن مشروع الرفاه لم يكن متعلّقا فقط بالسياسات الاقتصادية والبنى القانونية المنظمة لها، بل بمجمل التصورات عن المجتمع وعلاقاته ومنطق الحكم وخطابه. 

ويُعدّ الفصل الخامس أكثر فصول الكتاب آنية وتفصيلاً، حيث تقوم الباحثة ماري فانيتزل، بتتبّع التحولات الكبيرة في منظومة الدعم التمويني منذ العام 2014 وحتى العام 2022، كاشفة عن انكسار العقد الاجتماعي القديم وشبه الثابت منذ عقد الأربعينيات، وهي تفصل التحولات في "الدولة اليومية"، أي في حضور الدولة في التعاملات اليومية والدقيقة للمواطنين. وأكثر ما يلفت النظر في تحليل فانيتزل، هو الدور الذي لعبته ثورة يناير في التسريع من تلك الإجراءات التقشفية، وكيف أن الحماس لخصخصة منظومة التموين وتقليمها كان عاملاً مشتركاً بين حكومات ما بعد مبارك، مع اختلاف مرجعياتها السياسية. 
لا يتعمق الكتاب في مناقشة الاقتصاد السياسي ليناير أو تبعاته، إنما يلمّح له من بعيد، ويترك انطباعاً قوياً بأن أي مشروع مستقبلي للتغيير يجب أن يتضمن إحياء ذلك النقاش حول دولة الرفاه.