زهور جميل ملاعب التي لم تُترَك لـ"رسّامي الأحد"

محمد شرف
الخميس   2023/01/26
الزهرة لا تملي عليك شيئاً، بل ربما تقترح عليك أمراً في الغالب
".. وكل أفكاري هي عبارة عن أحاسيس. أفكر من خلال العينين والأذنين واليدين والقدمين والانف والفم. التفكير في زهرة هو رؤيتها وتنفسها، وتناول الفاكهة هو معرفة معناها".    - فرناندو بيسو (حارس القطيع).

قد تكون مصادفة، أو ربما كان الأمر مقصوداً أن يتزامن معرض جميل ملاعب لدى "غاليري جانين ربيز"(بيروت - الروشة) المعنون "زهور ملاعب"، مع "عيد الحب"، أو على الأقل قبله بأيام، وهو العيد الذي اعتادت فيه الخليقة، أو بعضها، أن تقدّم زهوراً لمن تحب، بعدما تكّرس العيد في اليوم الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر، حين اعتبرته بريطانيا، الكاثوليكية حينذاك، اليوم الذي تقوم فيه العصافير بإختيار شركائها من أجل التكاثر. لكن، يدرك من يتابع أخبار الفن المعاصر، إن رسم الزهور عاد إلى الواجهة، بعدما كان أُهمل لفترة طويلة، على اعتبار أنه من الموضوعات البسيطة في التصوير، ليُترك بالتالي إلى "رسامي يوم الأحد"، وهو التعبير الذي أطلق على الرسامين الهواة، ممن لا يُمثل التصوير بالنسبة إليهم أكثر من تسلية عابرة.

الحكم السابق حول عودة الزهور وموضوعاتها المستجدّة ليس شخصياً، بل ورد، ضمن مداخلات أخرى. فعلى سبيل المثال، كانت أشارت إليه أنياس غيناسيا، الأستاذة الفرنسية المحاضرة في الفنون البصرية والفن المعاصر. على أن اهتمامات ملاعب التشكيلية، في شكل عام، لم تقتصر على موضوع واحد. رسَمَ القرية وأهلها، والبحر وأفقه، ومدناً رآها في أسفاره، وطبيعة لبنانية وغير لبنانية. لم ينسَ حتى العصافير، فرادى، أو يملأون شجرة. إلى ذلك، رسم الفنان وروداً هنا وهناك ضمن لوحات، من دون أن تشكل صلب الموضوع، بل أتت حاضرة من ضمن تفاصيل أخرى، لكنه شاء هذه المرّة، في معرضه الحالي، أن تكون الورود، دون سواها، متن اللوحة وجوهرها.

هذا القرار إتخذ عمداً، كما نخمّن، في هذا الزمن الصعب، الذي اختفت فيه الإبتسامة، وصارت وجوه سكان البلد مكفهرّة كسماء شتوية إفتقدناها في الفترة الأخيرة، بعد إمتناع المطر وندرته. من شأن الورود، وهي التي يؤدي التفاعل البصري معها إلى أنواع معينة من الشعور، أن تبعث بعض الفرح، في تناقض مجازي ورمزي مع الوضع المذكور. هذه المتعة الناتجة من المعاينة البصرية، كما يفيدنا العاملون في الحقل البيولوجي، قد تأتي نتيجة التفاعل مع عوامل ومؤثرات عديدة كالفنون الجميلة، الجنس، الطعام، العطور، والإكتفاء الحاصل ما بعد تناول الطعام، وهي تنبع إلى حد كبير من تنشيط المناطق المركزية في الدماغ التي تفلت من الوعي.

على أن هذا التعريف "البيولوجي" لا يعني أن هذا الشكل من الشعور يحدث تلقائياً، بل يرتبط حكماً بنوعية العوامل المذكورة ومستواها، ولا شك أن أعمال ملاعب التشكيلية تستوفي الشروط المطلوبة، أكان من حيث بناء اللوحة وطريقة تقديمها، أو من حيث اللون الذي لطالما سار فيه الفنان أشواطاً، بفعل التجارب والخبرة، والفهم "الصحيح" لإمكاناته (وهي مسألة نسبية وليست مطلقة) ولموضوعات التجاور والتناغم، أو التعاكس، ضمن العمل الفني. إلى ذلك، ومن ناحية أخرى، سعى الفيلسوف البوذي سوزوكي دايسوتو إلى تفسير الرؤية غير المزدوجة التي تتجاوز الموضوع والشيء في إدراك الزهرة: "لم يعد هناك من موضوع. أنا، حين أنظر إلى الزهرة لا أرى موضوعاً، بل حدساً جديداً، رؤية مستيقظة. لست أنا الذي يرى لأن المراقب الفردي يختفي. من المستحيل وصف ما هو فوق الكلمات، وقبل الكلمات، عليك أن تعيش هذه اللحظة".



وفي حال شئنا الخوض في نقاش نظري مختصر، ذي علاقة مباشرة بمعرض ملاعب الذي نحن في صدده، كذاك الذي تطرّق إليه الفنان الفرنسي برنار مونينو، أستاذ الفنون البصرية في المدرسة العليا للفنون في باريس، وصاحب أعمال التجهيز المرتبطة بالنبات والورود، وهو النقاش المتعلّق، في جزء منه، بالتسمية التي لطالما شغلت الكثيرين، والمقصود هنا عبارة "طبيعة صامتة"، أو "جامدة"، وبحسب الترجمة الحرفية من الفرنسية "طبيعة ميتة" nature morte. هذه التسمية اعتبرها البعض مجحفة في حق العمل الفني، في حين لم تكن مفهومة، وأخذت على مقلب آخر، ممن لا يتعاطون الشأن الفني، الذين نظروا إلى العبارة بكثير من الإستغراب والتساؤل. فالكلمتان قيد الإستعمال: صمت – موت، (أو جمود) تشيران إلى إضمحلال، بل إلى نهاية ما.

طرح برنار مونينو سؤالاً مفاده: هل النبات متحرّك؟ الإجابة المتسرعة ستجعله غير قادر على الحركة. أعمال الفنان الفرنسي التجهيزية تلتقط الشكل الأول للحركة الخارجية (الخارجة عن نظام الشيء)، غير المباشرة. وهناك نوع آخر، كان أشار إليه الطبيب الفرنسي جان كوماندون، في عشرينات القرن العشرين، وهو مرتبط بنمو النبات الذي تمت ملاحظته مع مرور الوقت. فالنبات، بحسب كوماندون، عبارة عن بذرة وجذر وساق؛ إنها تنمو وتنتشر وتجدد نفسها. الأوراق تذبل، والزهور تذبل أيضاً، لكنها لا تفرض نفسها في طبيعة الحال، فهي صامتة، إذا صح التعبير. الزهرة لا تملي عليك شيئاً، بل ربما تقترح عليك أمراً في الغالب. يمكننا اعتبارها بلا حراك خلال فترة معاينتها لبضع دقائق، أو بضع ساعات، وهي تبدو جامدة. وبالرغم من ذلك، فإن تطورها العضوي، و"قدراتها" اللامرئية إذا أمكن القول، يضعها في الحيز الحي والمتحرك.

تبقى معاينة أعمال جميل ملاعب، التي أتى بعضها، القليل، قريباً نسبياً من المنحى الكلاسيكي من حيث حضور العناصر البديهية المتعلّقة بالموضوع، وجاء البعض الآخر، الأكبر، بعيداً منه من خلال الإنفلات من القيود، وإتباع حرية تعبيرية تجعل من الزهور مفردات شكلية ولونية متصلة حيناً، أو منفصلة حيناً آخر، وموزعة في فضاء اللوحة بحسب نظام ذاتي. نقول إن الأعمال التي بين أيدينا زاخرة بالحياة والحركة من دون شك. هذه الحياة، وتلك الحركة، بالرغم من طبيعتهما العضوية الغائبة، هما حاضرتان خلف اللوحة، وفي ذهن الفنان وألوان شعوره.

(*) للاستعلام: هنا.