حقيقة منع عبد الناصر "سائليني يا شآم" لفيروز

محمود الزيباوي
الخميس   2023/01/19
فيروز بـ"الملاية اللف" المصرية تغني "عطشان يا صبايا"
عاد رواد التواصل الاجتماعي مؤخراً إلى تناقل قصة مثيرة تتناول قصيدة "سائليني" التي نظمها سعيد عقل ولحنّها الأخوان رحباني وأدّتها فيروز. لا يذكر ناشرو هذه القصة اليوم المصدر الأوّل الذي شكّل أساساً لها، ويتبيّن عند البحث أن أوّل من رواها هو شربل القطار نقلاً عن صاحب القصيدة، في مقالة صحافية نُشرت في منتصف آب 2018، تحت عنوان: "قصة إطلاق أغنية "سائليني يا شآم" من إذاعة دمشق ومنعها بقرار من عبد الناصر".


يعود هذا الحديث إلى صيف 1995، يوم وجّه بطريرك الكلدان روفائيل بيداويد الأول دعوة إلى سعيد عقل لزيارة بغداد، فلبّاها رغم الحصار المفروض على العراق إثر غزو الكويت، وقطع الطريق الصحراوية الطويلة الفاصلة بين عمان وبغداد، ووصل في الأسبوع الأول من تموز، وشارك في مؤتمر انعقد في فندق بابل، ثم انتقل إلى فندق الرشيد. احتفلت الدولة العراقية يومها بالشاعر اللبناني، وعقدت على شرفه ندوة في فندق "فلسطين ميريديان"، حضرها عدد من المثقفين والأدباء والشعراء العراقيين.

خلال هذه الزيارة، سأل شربل القطار، الشاعر، عن قصيدته الشهيرة "سائليني يا شآم" التي غنتها فيروز، وعن ظروف ولادتها، فقال "إنه نظمها وألقاها أول مرة من إذاعة دمشق في الأربعينات من القرن الماضي، وكانت الإذاعة السورية حينها تدفع للشعراء أكثر بكثير مما تدفعه الإذاعة اللبنانية، وكانت قصيدة "سائليني يا شآم" أطول بكثير من أبيات الأغنية التي تشكّل فقط نحو ثلث القصيدة الأصلية". في الواقع، استقبلت الإذاعة السورية الشاعر اللبناني في ندوة بُثّت في آب 1953، وليس في الأربعينات، ونشرت نص هذا الحوار كاملاً في ثلاث صفحات من العدد الأول من المجلة التي تصدرها في مطلع أيلول، ثم عادت ونشرت القصيدة كاملة في العدد الخامس في مطلع تشرين الثاني، وعنوان هذه القصيدة "دمشق"، وتتألف من سبعين بيتاً، أوّلها: "سائليني حين عطرت السلام/ كيف غار الورد واعتلّ الخزام".

في تلك الحقبة، لم يكن سعيد عقل على صلة مباشرة بالأخوين رحباني، واللافت أنه ذكرهما في حديثه الإذاعي ونوّه بتجربتهما حيث رأى بأن "معظم الشعر الذي غُنّي في أوروبا باستثناء مقطوعات للشاعر غوته، كان شعراً ركيكاً"، ثمّ أضاف: "هل يكون في بعض ما غُنّي لأحمد شوقي، وما تغنّيه فيروز من شعر الأخوين رحباني خطوة ذات شأن في هذا المضمار؟ أنني أميل إلى التفاؤل". بدأ التعاون بشكل خجول بين الشاعر والفنانين الشابين في العام التالي، حيث غنت فيروز قصيدة "أجمل من عينيك" في "محطة الشرق الأدنى"، وهذا التسجيل مفقود، كما غنت قصيدة باللغة المحكية عنوانها "حلم" في محطة الإذاعة السورية، وهذا التسجيل محفوظ في مكتبة هذه الإذاعة. بعدها، في صيف 1960، اختار الأخوان رحباني أربعة عشر بيتا من قصيدة "دمشق"، غنّتها في فيروز في ثاني إطلالة لها على مسرح معرض دمشق الدولي.

يتابع شربل القطار الرواية ويقول: "خلال الوحدة السورية - المصرية، في العام 1958 أو 1959، كان الرئيس جمال عبد الناصر يخطب على شرفة قصر المهاجرين في دمشق، وقال في خطابه وهو يتكلم عن الشآم "إنه سيدخلها التاريخ"، عند سماع الشاعر سعيد عقل هذه الفقرة، تذكر قصيدته عن الشآم وما كان قد أورده في كلامه عن أهلها: "أهلك التاريخ من فُضْلَتِهم/ ذكرهم في عروة الدهر وسام"، فاتصل مباشرة بالأخوين رحباني وسألهما إذا استمعا إلى خطاب عبد الناصر، فأجاباه بأنهما استمعا إليه واتفقوا على أن يمر عليهم الشاعر سعيد عقل ومعه القصيدة القديمة، واستعرضوا قصيدة "سائليني يا شآم"، وانتقوا منها الجزء الذي نعرفه وغنته فيروز، وبسرعة البرق نزلت الأغنية إلى الأسواق ولاقت رواجاً كبيراً، وبدأ بثها من الإذاعات العربية، وبخاصة الإذاعة السورية وإذاعة صوت العرب من القاهرة".

تبدو هذه الرواية مضطربة عند التدقيق فيها. ألقى عبد الناصر خطاب الوحدة في شباط 1958، وألقى خطاباً آخر من قصر الضيافة بدمشق في آذار 1959، ولم يقل في أي منهما أنه سيُدخل الشآم التاريخ. في المقابل، أحيت فيروز مع الفرقة الشعبية أولى حفلاتها في دمشق في أيلول 1959، وفي هذه الحفلة قدّم الأخوان رحباني لوحة "مصرية" من ميراث سيدّ درويش، حوَت "الحلوة دي"، "طلعت يا محلا نورها"، "عطشان يا صبايا"، و"زوروني كل سنة مرة"، وفي هذه اللوحة، ظهرت فيروز بالملاية المصرية، كما تشهد الصور التي تعود إلى هذه الحفلة. في العام 1960، عادت فيروز إلى معرض دمشق للمرة الثانية، وافتتحت الحفلة بـ"سائليني" كما أشرنا، ولهذه الحفلة تسجيل محفوظ في الإذاعة المصرية، وقد بُثّت، كما بُثت أغنياته بشكل مستقل مراراً، ومنها "سائليني".

بحسب الرواية التي نقلها شربل القطار، اتصل سعيد عقل بالنائب اللبناني إميل البستاني الذي كانت له علاقة وثيقة بعبد الناصر، وطلب منه إبلاغ الزعيم بقصة الأغنية، ففعل، فصدرت من مسؤولي حكومة "الجمهورية العربية المتحدة" تعليمات تقضي بمنع بث "سائليني" في إذاعات القاهرة ودمشق، وبقي المنع حتى صبيحة الانقلاب على الوحدة بتاريخ 28 أيلول 1961. لكن، في الواقع، لم يُمنع بث "سائليني" لا في القاهرة ولا في دمشق. وفي أواخر آب 1961، قبل انهيار الوحدة، عادت فيروز إلى معرض دمشق للمرة الثالثة، وأحيت ثلاث حفلات افتتحتها بقصيدة من شعر الأخطل الصغير، هي بضعة أبيات اختارها الأخوان رحباني من قصيدة طويلة بعنوان "سيوف وجراح" نظمها الشاعر عند زيارة رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي إلى لبنان في 1947، في عهد الرئيس بشارة الخوري.

في الختام، تقول الرواية التي نقلها شربل القطار أن إذاعة دمشق، في صبيحة الانقلاب، "بدأت في بث بلاغات انقلاب الانفصال والأناشيد الحماسية، وفي مقدمتها أغنية فيروز "سائليني يا شآم"، وبعد ذلك أصبحت الأغنية الحماسية التي تبث بمناسبة الانقلابات التي تعاقبت في سوريا". قد يكون هذا الكلام صحيحاً، لكنه بالتأكيد يشير إلى "توظيف" القصيدة، وليس إلى تكوينها الأوّل.