طه حسين باقٍ في مصر.. غضب وبيان مقتضب

أسامة فاروق
السبت   2022/09/03
مقبرة طه حسين حينما غزتها علامات الإزالة
منذ أيار/مايو الماضي، تبحث أسرة عميد الأدب العربي طه حسين عن إجابة لسؤال وحيد: هل هناك قرار بإزالة مقبرته؟
 
بالأمس فقط حصلت الأسرة على الردّ، إذ نشرت محافظة القاهرة بياناً مقتضباً عبر صفحتها الرسمية في فايسبوك جاء فيه: "تؤكد محافظة القاهرة عدم صحة ما يتم تداوله عبر المواقع الإخبارية وصفحات السوشيال ميديا بشأن إزالة مقبرة عميد الأدب العربي د.طه حسين ضمن أعمال التطوير التي تجرى بالمنطقة، وأن ما يتم تداوله بهذا الشأن عار تماماً من الصحة". لكن حتى تلك الإجابة المتأخرة تحمل في طياتها أسئلة أخرى، فإن كانت المقبرة لن تدخل ضمن أعمال التطوير، فمن كتب عليها كلمة "إزالة"، ولماذا؟  

بدأ الأمر منتصف أيار/مايو الماضي بكتابة علامة "إكس" حمراء كبيرة على الجدار الخارجي لمقبرة طه حسين، علماً أن المقبرة تضم أيضاً رفات ابنته أمينة وزوجها محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر إبان حرب أكتوبر 1973، إضافة إلى مقابر أخرى محيطة بمنطقة الخليفة جنوبي القاهرة. انتشرت الصور في مواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت الكثير من الجدل لأننا بتنا نعرف الآن ما تعنيه تلك العلامات. فخلال الشهور الماضية، أزيل كل ما يحملها سواء كان عقارات أو حدائق أو مقابر، لصالح توسيع الطرق والمحاور داخل العاصمة وحولها.

لم تنتظر أسرة العميد كثيراً، وتوجهت كغيرها إلى محافظة القاهرة التي تتبع لها المنطقة للسؤال، لكنهم لم يحظةا بإجابة، ولم تحصل العائلة على تصريح رسمي يفيد بالهدم من عدمه. بل وفشلت كل وسائل الإعلام في انتزاع تصريح رسمي واحد يشرح مصير المنطقة، وكل ما حصلت عليه كان اجتهادات بالنفي من مصادر مُجهَّلة. وما هي إلا أيام حتى بدأت المعدّات في دخول المنطقة، وهدمت بالفعل بعض المقابر المجاورة التي نُقلت رفات أصحابها إلى مقابر جديدة بمنطقة 15 مايو/أيار. ومن جديد، تحركت العائلة للسؤال إن كانت مقبرة طه حسين ستواجه المصير نفسه، ومجدداً لا إجابة!

تجدد الجدل مرة أخرى خلال الأيام الماضية، بعد إضافة كلمة "إزالة" مرتين على جدار المقبرة. بات الأمر واضحاً الآن، ولم يعد هناك إلا إبلاغ العائلة بالمقر البديل المقترح، لكن هذا أيضاً لم يحدث، بل تضاربت الأنباء حول طبيعة المشروع نفسه، وإن كان الهدم سيتم لصالح محور بإسم الصحافي الراحل ياسر رزق، أم لبناء كوبري، أم توسعة للطريق فقط تمهيداً لربطه بمحاور وطرق أخرى.


(أزيلت الكلمات التي أحدثت الضجة)

وأمام حالة الصمت المحيرة تلك، بدأت الأسرة مناقشة البدائل، ومن بينها نقل الرفات خارج مصر، واقترحت فرنسا التي قيل إنها رحبت فوراً باستضافة رفات العميد.

اقتراح نقل الرفات أدّى إلى تصاعد كبير في الجدل، ما حدا بحفيدة طه حسين، مها عون، الى نشر بيان يوضح موقف الأسرة من احتمال هدم المقبرة والموقف النهائي حيال نقل الرفات. أرفقت عون، البيان، بصورة لشجرة الميموزا التي زرعتها جدتها في مقبرة رفيق رحلتها الراحل، وقالت إنها اكتشفت المقبرة عندما كانت في السابعة والعشرين من عمرها عندما توفيت والدتها ودُفنت هناك. وأنها أحبت زيارة المكان منذ ذلك الوقت: "بالنسبة إلي، يمثّل جذوري حيث دُفنت عظام أجدادي، وأيضاً هو المكان الذي سأدفن فيه بعد كل رحلاتي وأسفاري. لهذا السبب صدمني بشدة قرار هدم مقبرة عائلة طه حسين، أن يتم اقتلاعنا من جذورنا حتى يتسنى لكوبري أن يستقر مكان أجسادهم المدفونة".

نفهم من البيان أن صدمة الأسرة لم تكن فقط لاحتمالية النقل، مع ما كل ما يتبعه من أذى، لكن لأنها لا تعلم إن كان هناك قرار قد اتخذ أم لا، وكان هذا مبرراً لكلمات الغضب التي ظهرت في البيان: "بدلاً من إبلاغنا ذلك (قرار الهدم) تم تدنيس القبر أولاً بعلامة x باللون الأحمر، وهي جريمة في بعض البلدان. حاولنا خلال الأشهر الماضية الحصول على إجابات، لكن حتى الحد الأدنى من الاحترام لإبلاغ الناس بأن جذورهم ستُقتلع، لم نحصل عليه. بدأ الجيران المتوترين في إزالة رفات أحبائهم لأنهم سمعوا عن جرافات تدمر قبوراً أخرى. الآن أضيف على علامة x كلمة "إزالة" أيضاً باللون الأحمر ثم تم قطع المياه، لن يتم إذن ري نباتات سوزان بعد الآن".

إزاء هذا الوضع، كانت ردود أفعال الأسرة مختلفة. أرادت عون نقل الرفات إلى "بلد تحترم فيه السلطات سلام الموتى"، وربما حتى تكرم شخصية كانت رائدة في صناعة النهضة، لكن خالها وخالتها رفضا الفكرة، وقالا إن مَن دُفن هنا لن يرضى أن يدفن خارج مصر، "وأنا أعلم أن هذا صحيح". قالت الأسرة إن العميد كرس حياته لتطوير مصر ولمناصرة حقوق الفقراء والعدالة، والدفاع عن المساواة. حتى زوجته الفرنسية، أعادت جواز سفرها للسفارة الفرنسية عندما هاجمت بلادها مصر أثناء العدوان الثلاثي العام 1956. فكيف "ننفيه" من بلده؟ قالت الأسرة أيضاً إنها تعرف أن طه حسين تعرض للهجوم من قبل المتطرفين الإسلاميين وحتى بعض الحكومات التي حكمت في حياته، "لذا فالهجوم عليه بعد وفاته ليس أمراً جديداً بالنسبة إليه". 

الاهتمام الذي لقيته العائلة، خلال الأشهر الماضية، من قبل الكثير من المصريين الذين يعرفون قيمة فكر طه حسين كان كبيراً جداً، وربما عوّضهم قليلاً عن الأذى الذي تعرضوا له. وبناء عليه، قررت الأسرة الإبقاء على الرفات في مصر، وانتظار الرد الرسمي: "إن طه حسين مصري، ومصر هي المكان الذي ينتمي إليه، بغض النظر عن الحكومات والسلطات. وبعد العديد من الاجتماعات، وأمام حالة الحب إزاء العميد، قررت الأسرة أنها لن تنقل رفات عميد الأدب العربي، هذا ما استقر عليه رأي الأغلبية في العائلة بعد مناقشات طويلة". 

بعد ساعات من بيان الأسرة، جاء الرد الرسمي الأول من المحافظة الذي أكد عدم الهدم، ورغم أنه أُلحق بإزالة العلامات الحمراء كلها من جدران المقبرة، فما زال هناك تخوف من أن يكون مجرد إجراء مؤقت لاحتواء الغضب، كما تقول مونيكا حنا أستاذة الآثار المصرية.

خلال الأزمة، اقترح البعض نقل رفات طه حسين إلى متحفه في الجيزة، أو حتى بناء ضريح جديد له أمام جامعة القاهرة، وتوسع البعض باقتراح مكان واحد لمقابر العظماء، مثل "بانتيون" باريس. وتعليقاً على هذه الاقتراحات كلها، قالت د.جليلة القاضي، أستاذة التخطيط العمراني التي تتبنى حملة للحفاظ على الجبّانات، إن نقل مومياوات ملوك وملكات مصر لم يؤد إلى إزالة جبّانة طيبة، ودفن سعد زغلول في ضريح منفصل لم يؤد أيضاً إلى إزالة مقبرة أسرته. كما أن نقل رفات العظماء في فرنسا لا يعني هدم مدافنهم، بل علي العكس تظل في مكانها وتحاط بكل الرعاية والتقديس وتدرج ضمن المزارات السياحية، "كما أن فكرة إزالة الجبانات التاريخية بكاملها من أجل انشاء طريق أو كوبري، خارج المنطق والعقل، وفي يوم ما ستصبح مقابر 15 مايو/أيار البعيدة داخل العمران وتعيق المرور، فهل ستُزال لينقل الأموات لأماكن جديدة؟ حدث هذا بالفعل عند إنشاء محور المشير". تتساءل القاضي أخيراً: "إلى متى سنستمر في ترحيل موتانا من مستقراتهم الأخيرة من أجل إنشاء كوبري أو طريق؟ إن المشهد في جبانة الأباجية، لا يصدقه عقل، في غضون أيام سُويت بالأرض بالبلدوزرات كأن شيئاً لم يكن، وأزيلت منطقة من أجمل مناطق الجبانات بأشجارها السامقة وخضرتها اليانعة. وبقي مدفن عميد الأدب العربي وحيداً، وسط الأنقاض، ينظر صاحبه بقلبه لفاقدي البصيرة والرشد".