"كايرو".. عن أية قاهرة تتحدث الصور؟

شريف الشافعي
الثلاثاء   2022/09/27
الدهشة هي الرهان الأول للفنانة شيرين رجب
عندما يصير المكان بطلًا، في رواية أو مسرحية أو قصيدة أو لوحة تشكيلية، فإن الأمر يتخطى المواقع والمرائي والمَشاهد بطبيعة الحال، ويتجاوز الجغرافيا الحدودية والتضاريسية بمفهومها الضيّق. المكان، من منظور إبداعي؛ جمالي وفلسفي ونفسي، هو قيمة حيوية كبرى قادرة على التعبير، وهو امتداد للإنسان على الأرض بتعريف غاستون باشلار، وهو مرآة تعكس الحضارة والتاريخ وحركة البشر، ولقاء الماضي والمستقبل عند نقطة الحاضر الواقعي، كما في روايات نجيب محفوظ المنخرطة في الأمكنة، بداية من عناوينها حتى آخر سطورها.

المكان أيضًا شخصية، وهوية، وخصوصية، وجذور، وانتماء. بل إنه "عبقرية"، مثلما يذهب جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، ذلك السّفْر الضخم، الذي يفتح فيه فضاءات المكان على معانٍ واسعة، تخص شخصية مصر الطبيعية (الجيولوجيا والنيل والجغرافيا المتسمة بالبساطة)، وشخصيتها البشرية (السكان عبر التاريخ والدول المتلاحقة)، والتكاملية (الجوانب الاقتصادية وعلى رأسها الزراعة)، والحضارية (الخصائص المجتمعية في المدن الحضرية والقرى والمناطق الشعبية).

ويصل حمدان إلى أن هذه العبقرية المكانية لم تحل للأسف دون ارتداد مصر من ميدان السبق الحضاري إلى منحدر التخلف والعزلة وفقدان الهوية والقدرة على التأثير. كما يذهب باحثون آخرون، إلى أن شخصية المصري الصميم "ابن البلد"، التي تعني الشهامة والمروءة و"الجدعنة" والتحلي بالأصول والتمسك بالتقاليد وما إلى ذلك، قد تدهورت هي الأخرى وأصابها العطب. بل إنها، وفق الباحثة عزة عزت في كتابها "التحولات في الشخصية المصرية"، تخلت أيضًا عن روح المرح والفكاهة التي كانت تسمها، وتضخمت لديها صفات السلبية واللامبالاة والبلادة تحت شعار "طنِّشْ تعِشْ تنتعشْ"، و"كَبـَّرْ دماغك"، ما أدى إلى تفريغها من ثقلها ومحتواها.

إن هذه المعطيات كلها، وغيرها، التي تجمع بين فلسفة المكان ومحطات التاريخ ونسيج التركيبة البشرية وعناصر التحقق الحضاري، لا يمكن أن تغيب عن زائر المعرض التشكيلي الجديد "كايرو" للفنانة المصرية شيرين رجب في متحف محمود مختار بالقاهرة (سبتمبر/ أيلول 2022). فهذا المعرض الزاخم، الثامن في مسيرة الفنانة، يتسلح بالوعي والمعرفة، فنيًّا واجتماعيًّا، ويحفر في الذاكرة، مستلهمًا مظاهر الحياة وتمثلاتها في القاهرة الشعبية عبر العصور، بأحيائها وشوارعها وبيوتها وأناسها وعاداتها وتقاليدها.

يتضمن المعرض 25 لوحة ذات أحجام متباينة، بألوان الأكريليك والزيت على القماش، وكلها ذات تكوينات تعبيرية رامزة، إذ تكتسي طابعًا تأثيريًّا وتجريديًّا متشعب الدلالات والإيحاءات، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التفسيرات اللامتناهية للقطات من الوجهة الجمالية، إلى جانب إثارة الكثير من التساؤلات عن ملامح تلك القاهرة التي توثقها أصابع الفن الذكية، المراوغة، وهل هي قاهرة اليوم أم الأمس القريب أم الماضي البعيد، أم المدينة التي تحلم بها المبدعة التشكيلية المتميزة، وتستدعي مفاتيحها الغائبة من تخيلاتها الجامحة؟

الحقيقة أن لوحات المعرض منفتحة على هذه الاحتمالات والحالات والروائح كلها، وغيرها، بكل تداخلاتها وتناقضاتها. فلسنا في حصة مدرسية محنّطة جامدة لنقول إنه لا مجال في هذه اللحظة الباهتة لمعرض نابض ومتوهج عن القاهرة، بعدما غاب الوجه الواضح والمحدد للشخصية المصرية، وتآكلت الهوية الشعبية المحلية، وانحدر المعمار القاهري وبلغ ذروة عشوائيته في العاصمة التي تعد واحدة من أكثر المدن تلوثًا وضجيجًا في العالم. إن رسائل الفن ومجالاته أخصب وأعمق بكثير من أن تنقل قبح الواقع وتسجله معلوماتيًّا ورصديًّا، فهي إبحار سحري وسري في جماليات المكان المحتفظ بطاقته الخفية تحت الأتربة والانهيارات، مثلما يحتفظ الإنسان بروحه النشطة، وإن غطّاها الصدأ ونال منها الواقع الخشن الرديء.

نحن لا نصدق "الجهاز القومي للتنسيق الحضاري"، وأجهزة وزارة الثقافة الرسمية، على سبيل المثال، عندما تستعرض مشروعاتها ذات الميزانيات الباهظة، التي يُحشد لها من أجل تطوير القاهرة التاريخية، الخديوية والفاطمية والمملوكية والفسطاط وغيرها، بهدف الحفاظ على التراث وحماية الآثار، والحد من التدهور العمراني والفوضى البصرية، واستعادة المجد الحضاري الغائب عن باريس الشرق، واستحضار الشخصية المصرية الممزقة لتمارس حضورها الفاعل، محليًّا وعربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا.

لكنّ الأمر يبدو مختلفًا تمامًا في معرض تشكيلي فني يستنطق القاهرة ويستدعيها حية في قلوب عشاقها، على هذا النحو من المصداقية، المشحونة بالطزاجة والعفوية والعمق في آن. إن "كايرو" التي تتناولها الفنانة شيرين رجب في تجربتها، هي ببساطة واختصار القاهرة المحببة، بكل تجلياتها، سواء المتبقية على الأرض، أو المخزونة في ذاكرة التاريخ، أو المتمنّاة في مستقبل قريب، أو المتشهّاة في حلم أو خيال. وفي اللوحة الواحدة، هناك عادة مزيج من هذه الوصفات والنكهات كلها، مع بعضها البعض، في دراما تصاعدية شيّقة، بطلها الأول دائمًا هو المكان، الملتحم بالناس والأحداث والممارسات البشرية في مناسبات متنوعة، ويوميات اعتيادية ذات طابع شعبي، تم التقاطها من زوايا خاصة مغايرة.

تحذف الفنانة شيرين رجب، الزوائد والحواشي، من طرطشاتها اللونية الصاخبة وضربات فرشاتها المفعمة بالخصوبة، فهي لا تعنى بتفاصيل البيوت مثلًا من جدران وأسقف وأبواب ونوافذ، وكذلك لا تتوقف عند تفاصيل المساجد والمحلات في السوق والمركبات والعربات والأشجار وغيرها. كما أنها تخلّص الوجوه والأجساد الآدمية من ملامحها الدقيقة، ساعية إلى التكريس لفكرة الانصهار على كل المستويات. فالكائن، بحد ذاته، منصهر في داخله، وكذلك هو منصهر في تجانسه والتحامه بالكائنات المجاورة، ضمن التكوين الواحد الذي يصعب حده بإطار.

مفارقة أخرى يحملها المعرض، هي تسميته "كايرو" باللغة الإنكليزية، وتحيل تلك التسمية إلى الرغبة الواضحة في إثبات خصوصية القراءة الذاتية لتلك القاهرة التي ترويها الفنانة وفق تصوراتها هي، وبالتالي فإنها قاهرة نابعة من رؤية تختلف عن رؤى الآخرين، وهذا سر تميزها وتفردها واتساقها مع نفسها.

وإلى جانب التركيز الشديد في تلك الرؤية، والاختزال، والكتابة بالمحو، فإنها رؤية من خلال مصفاة. ولا يعني ذلك استبعاد الفنانة عناصر ومفردات واقعية بدعوى أنها غير جمالية، لكن التصفية هنا تعني الاستقطار والفلترة، والتنقية من الاستهلاكي المجاني، الذي بات شائعًا حد الابتذال في المعارض التشكيلية التي تتناول الحياة الشعبية في القاهرة من خلال وجوه ومعالم وثيمات ودوال مألوفة ومكررة حد النمطية. إن الدهشة هي الرهان الأول للفنانة شيرين رجب، وهي عنوان مدينتها "كايرو"، التي قصدها، وسيقصدها كثيرون.