أسرار "نشيدنا الحزين"

شاكر الأنباري
السبت   2022/09/24
بدأت كتابة رواية "نشيدنا الحزين" قبل ثلاث سنوات، وفي أحوال متغيرة كنت فيها غاضباً بعض الأحيان أو سعيداً، صاحياً أو محلّقاً في عالم الخيال، ليلاً أو نهاراً، عاشقاً أو وحيداً. وكتبت جلّ مَشاهدها في قارة أوروبا، وتحديداً في كوبنهاغن، لكن حروفها الضوئية المصفوفة على شاشة الكومبيوتر سافرت معي إلى أماكن نائية، لتزيد وتنقص حسبما يقتضي فنّ الرواية، سواء في بغداد وبروكسل، أو الفندق ومطار صبيحة الإسطنبولي، قاطعة قبل أن تكتمل آلاف الكيلومترات.

تنمو أحياناً إذا أضفت إلى شخصياتها وحوادثها مشهداً جديداً، وتنقص وتنكمش إذا حذفت مشهداً أو تفصيلاً وجدته فائضاً أو ضعيفاً، أو خارجاً عن السياق. شخصيات مثل نائل، وليث، وباسم، ووسام، ومراد الكردي، وعلي الشمري المخرج، ومنى المتمردة، وبسمة الرسامة، وكمال الشاعر، دارين ورزان السوريتين، وآنا وبيتا الدنماركيتين، وكاره البشر فريد نافع المصاب بالسل الذي مات في الطريق إلى المشفى.

شخصيات ظلت تجلس معي عبر الزمن، أو تبتسم لي حتى في المنام، أو توشوش في أذنيّ ثلاث سنين طباقاً. شخصيات بعضها عراقي وبعضها دنماركي وبعضها سوري، دوّنت ثرثراتها، وموبقاتها، وأوهامها في ليل صيفي، أو تحت وابل الثلج وصياح النوارس. وعشت مع بعضها عذاب السفينة المتأرجحة وهي تعبر بحر الشمال نحو بريطانيا، أو مشيت مع البعض الآخر في دروب جبال كردستان، أو زقاق كوجه مروي الطهراني، أو تأملتها في مقهى البرازيل الدمشقي مع كمال الشاعر وهو يجلس مستمعاً لرزان تروي حكاية صديقتها دارين الحمصية، أو عند نهر خريسان البعقوبي وحاناته المعتمة أيام الحرب العراقية الإيرانية. لقد اجتمعت الحروف في تلك الشاشة وتكونت كلماتها، وجملها، وأفكارها، بعدما نقشتها أصابعي ليلة بعد أخرى، ونهاراً بعد ثان، حتى اكتملت وانغلقت حوادثها. سافرت معي آخر مرة على الجهاز الكئيب، البارد، على متن طائرة البيكوسوس التركية نحو صيف بغداد اللاهب، فجلنا سوية في شارع المتنبي. شربنا الشاي على الرصيف، وجلسنا على تخوت الخشب في مقهى الشابندر القريب من تمثال المتنبي القائم على كتف دجلة، حتى استقرت هناك ردحاً من الزمن، ثم مضت مع الناشر إلى بيروت.

رسم غلافها فنان عراقي يقيم في برلين طلبت منه لوحة هايكوية شاهدتها ذات مرة في صفحته الفيسبوكية فنشدتها غلافاً يلائم المضمون. الحزن رديف الذبول، وتلك اللوحة توحي بالكآبة رغم ألوانها الساحرة. ثم بعد أقل من شهر عادت إلى بغداد بقصصها، وشخوصها، ووصفها، وحواراتها، عادت محنّطة على ورق أنيق، وتجاوزت صفحاتها الثلاثمئة.

هي بمجملها أوهام سنين ثلاث، وملامح سنين ثلاث لأشخاص التقوا في حيز ضيّق هو جزر متناثرة على الماء، تقع في شمال الكرة الأرضية. التقوا على وليمة صدمة الحضارة، وتغيرات أرواحهم الناعمة، وجنونهم البطيء على مدار أربعين سنة أرضية. أربعون سنة استحضرتها بضجيجها، وتواريخها، ومشاعرها، لتتجسد في هذه المدوّنة الورقية التي هاجرت بعد طبعها من بغداد إلى إسطنبول، وفيها لبثت شهرين في بيت صغير يطل على البوسفور، ثم حملت رحالها وتوجهت إلى مطار صبيحة في نهار رائق، وعادت ثانية إلى بيتي وسط كوبنهاغن. لكنها عادت على ورق جميل، وغلاف ملوّن لصديقي البرليني العراقي رسام الهور المجفف، والمدن الضوئية في القارة السعيدة، والرقص على إيقاع غيتار، وبيانو، وطبل من الجلد والخشب. هي اليوم بين يديّ لكنني لم أعد أمتلك مصائرها، تمردت شخوصها وبغت، ناشدة حريتها المطلقة كي تعاقر مخيلة بشر آخرين. أزاحت سلطة الكاتب وفكره الضيق عن كاهلها، وسرحت في دروب الحياة بلا رقيب أو قيد، إذ صار من المستحيل إعادتها إلى السجن كرّة أخرى.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية