جان لوك غودار.. آلهة السينما تموت أيضاً

محمد صبحي
الأربعاء   2022/09/14
غودار، 2001
هناك اقتباس مشهور من جان لوك غودار يقول إن "السينما تبدأ بدي دبليو غريفيث وتنتهي عند عباس كيارستمي". بالمثل، يصحّ القول إن هناك سينما ما قبل غودار وأخرى منذ ظهوره.

عندما عرض الناقد السينمائي الناجح فيلمه الطويل الأول "حتى آخر نَفَس" في العام 1960، في عمر الثلاثين، أعطى الوسيط السينمائي صدمة ثقافية لم يتعاف منها أبداً. تماماً كما فعل مايلز ديفيس مع موسيقى الجاز، أو بوب ديلان بالأغنية الأميركية. ارتقى غودار بشكلٍ فني كان يُعتبر ترفيهاً جماهيرياً في ذلك الوقت أكثر مما هو عليه اليوم (على الأقل من قِبل هذه الجماهير نفسها)؛ فعلها بذكائه وألمعيته وثقافته، دون أن يتخلّى عن الإمتاع في الطريق لتحقيق ذلك.

لم يعد بالإمكان قول هذا الأخير عن أعماله المتأخرة، لكنها ليست أقل إدهاشاً لذلك السبب أيضاً. في السبعين عاماً أو نحو ذلك التي قضتها السينما مع غودار، منذ أن كتب مقالاته/مراجعاته الأولى، بلغتْ سن الرشد فعلياً. ومع ذلك، في الوقت نفسه، يغلق عمل غودار المتأخر، بعد انعزاله في ريف سويسرا، دائرة وحقبة أعلنت الفيلم وسيطاً رائداً ونصّبت السينما محوراً مركزياً للحياة الحضرية. في عصر أمازون ونتفليكس، تختفي تلك الحقبة أمام أعيننا.

جنباً إلى جانب أصدقائه (وأحياناً منافسيه) من نقّاد "دفاتر السينما" ومخرجي "الموجة الجديدة" لاحقاً، طوَّر غودار نظرية فيلمية جماعية في خمسينيات القرن الماضي تتبّعت مسار سينما المؤلف في إنتاجات هوليوود. لم يرغب أي من هؤلاء الشباب، بريسون وتروفو وفاردا وشابرول وريفيت ورومير ورينيه، على سبيل المثال لا الحصر، في أن يتم استغلالهم في مصنع الأحلام أو أن تبلعهم أضواء النجومية. هذا النضج المبكر أعطى بدوره دفعة للمطلب السياسي المتمثل في وجوب وجود ثقافة سينمائية معترف بها ومدعومة علناً. ليس من قبيل المصادفة أن النضال الشبابي الذي شارك فيه غودار وتروفو بقوة من أجل الإبقاء على السينماتيك الفرنسي (مؤسسة السينما الفرنسية) بمواجهة حكومة استبدادية من يمين الوسط، بعيدة عن اهتمامات جيل الشباب؛ كان نقطة محورية في احتجاجات مايو/أيار 1968 التي عمّت فرنسا قبل أن تتردّد أصداؤها في أنحاء أخرى من العالم. الآن، يصعب تخيُّل نزول شخص يتيم إلى الشارع من أجل المطالبة بحقه في ثقافة سينمائية أو شيء من هذا القبيل.

"وداعاً للّغة" هو عنوان أحد أفلام غودار الأخيرة، واللغة التي يودّعها هي بالطبع اللغة المشتركة التي ساهم في الارتقاء بها سينمائياً. كان زمناً آخر غير الذي نحياه الآن، بمحاذير وحساسيات أقل ومساحات أكبر للابتكار واللعب والقول السينمائي.


لو أن مقال التكريم هذا كان فيلماً، فإن مقتطفاً من كوميديا معاصره السويدي بو فيدربيرغ سيظهر الآن للتدليل على شعبية غودار في منتصف الستينيات. في فيلم فيدربيرغ المعنون "حبّ 65" (1965)، يقول البطل، وهو مخرج سينمائي، "أريد أن أصنع فيلماً حقيقياً كما لو كان جالساً على مائدة الإفطار". وبعد ذلك مباشرة، أثناء ممارسته الجنس مع زوجة صديقه، يقتبس من مثله الأعلى: "قال غودار: السينما حقيقة، تتكرر أربع وعشرون مرة في الثانية. هذا أقرب ما يمكن للسينما الوصول إليه. ويعتقد أنتونيوني أن كل تكوين مصوَّر يملك موقفاً أخلاقياً. هل أنا مملّ بالنسبة لكِ؟ - "لا. لكنك مستلقٍ على ذراعي".

إذا كان بإمكان المرء تعلُّم السينما في السرير، كما يدّعي مُعلّمو يوتيوب عن اللغات الأجنبية، فمن المحتمل أن يحدث ذلك في أوائل الستينيات إلى منتصف الستينيات، عندما هبّت رياح جديدة في السينما العالمية بشكل لم يسبق له مثيل ولم يحدث من حينها كذلك. في الواقع، كانت جملة غودار الشهيرة حول الحقيقة السينمائية قد ظهرت بالفعل في فيلمه الثاني، "الجندي الصغير" (1960). لكن بسبب موقفه النقدي من حرب الجزائر، حظرته الرقابة الفرنسية على الفور، لذا لم يكن من الممكن عرضه حتى العام 1963، بعد انتهاء الحرب وإعلان الجزائر استقلالها. وفي الوقت نفسه، عزّزت أفلام غودار الأخرى شهرته: الكوميديا ​​الشعرية "المرأة هي المرأة"، والدراما المؤسِّسة "هي تعيش حياتها"، واللذان نصّبا بطلتهما (وزوجته لاحقاً) آنا كارينا نجمةً للموجة الجديدة.

ثم اجتذب غودار نفسه نجوم السينما في العام 1963 بفيلمه "احتقار" (عن رواية لألبرتو مورافيا)، مستعيناً بطاقم تمثيل ضمّ بريجيت باردو وميشيل بيكولي وجاك بالانس وفريتز لانغ (الذي زوّد الفيلم باستطرادٍ لافت عن صناعة الأفلام). حتى يومنا هذا، لم يفقد هذا الفيلم الجريء أياً من سحره وإلغازه. تناقضاته ومعارضاته الأدبية والسينمائية تبقيه نضراً ومقلقاً وفتّاح سكك. فيلماً بعد فيلم، نجح غودار في ستينيات القرن الماضي في خوض غمار أنواع وأعراف السينما الجماهيرية وفي نفس الوقت الابتعاد عنها بمهارة. بهذا خلق مسافة من ثقافة الاستهلاك المتناسلة آنذاك، وأحدث ثورة في صناعة الأفلام ظلّت ملهمة لسينمائيين لاحقين حتى بعد عقود من ذروة نشاطه في الستينيات.

بأعجوبة، لا يبدو أن هذه البنية المثقفة والذهنية أثقلت كاهل فيلم جريمة مثل "عصبة الغرباء" (1964) أو فيلم عصابات مثل "بييرو المجنون" (1965)؛ على العكس من ذلك، فقد غذّت أفلام غودار جمهورها بفائض فكري لم يبل أو يتقادم حتى يومنا هذا. لم تكن السينما الطليعية أكثر شعبية مثلما حدث معه، ولكن يبدو أن تلك الشعبية تحديداً أضحت عبئاً متزايداً على المخرج. بدا عازماً على التخلص من أتباعه ومعجبيه بأعماله اللاحقة. لكن أولئك الذين اختاروا متابعة أعماله حصلوا على مكافآت غنية مراراً وتكراراً. على سبيل المثال، مع المونتاج الصوتي المتطور لأفلامه مثل "الموجة الجديدة" (1990)، الذي أُصدرت موسيقاه التصويرية في أسطوانة حملت علامة ECM الشهيرة، أو في الوثائقي الثوري "موسيقانا" (2004) بتوليفته الغودارية بين صور ونصوص وتعليقات صوتية لإنجاز فيلم سياسي بطريقة سياسية، عن الحرب والعنف والهزيمة.


في مهرجان كانّ السينمائي، الذي دأب على عرض جديده بانتظام، أتقن غودار لعب الغميضة مع الجماهير والنقاد، فعادة ما تغيّب عن المؤتمرات الصحفية المقررة. في العام 2018، عُرض فيلمه الأخير، "كتاب الصورة"، هناك: مرة أخرى، حوّل تجريبه المونتاجي والتوليفي قصرَ المهرجان إلى كهف أفلاطوني، ملقياً بصور وشظايا صوتية في فضاء للتفكّر الافتراضي. مستنداً إلى فكرة الطباق الموسيقي، يغوص الفيلم في تاريخ متوالدٍ ذاتياً لأكثر الصراعات وحشية، متسائلاً عن علاقتنا بالسينما والثقافة والسياسة العالمية. يستعرض غودار تاريخاً سابقاً يعود لآلاف السنين للنضالات الثقافية للحاضر في مئات المقاطع من الأفلام الكلاسيكية ولقطات النشرات الإخبارية، مازجاً بين فيديوهات جرائم داعش (مشبعة بالألوان ومشوّهة بحيث يتعذّر التعرف عليها تقريباً) ومشاهد أيقونية من كلاسيكيات الأفلام لسيرجي آيزنشتاين أو كينغ فيدور أو ماكس أوبهيلس.

بعد العرض، أظهر نفسه للصحافة بشكل مفاجئ، على شاشة هاتف ذكي رفعه أحد المنظمين في القاعة، وهكذا عُقد المؤتمر الصحافي للفيلم. بصبر وسحر، أجاب على جميع أسئلة الصحافيين، بما فيها سؤال حول سُبل بقاء ونجاة صالات السينما في زمن صعود منصّات البث. "لا أستطيع القول حقاً، على الرغم من أنني أتمنى بقاء مساحة التفكير هذه." بعدها بقليل، أتبع بجملة فلسفية قال فيها: "أحياناً تبدو السينما بالنسبة لي مثل كاتالونيا الصغيرة التي تحاول يائسة الوجود".

يرغب العديد من صانعي الأفلام في إرضاء جمهورهم وإثارة إعجابهم. لكن ليس غودار. من أول أفلامه حتى آخرها، وجد المعلّم الفرنسي السويسري رغبة أكثر في السخرية والزعزعة والتنفير والإقلاق. كان مهتماً باستكشاف ودفع حدود صناعة الأفلام باستمرار. ترك عمداً الأعراف والتقاليد السردية تتلاشى في شقوق ووصلات الفيلم. وكل ذلك لإحضار المُشاهد إلى تجربة جديدة تماماً للفيلم والواقع. صنع سينما لا أفلاماً. وكان لهذه التجربة الغنية والمستمرة ثمنها. أصبح غودار واحداً من أكثر المخرجين نفوذاً ومحاكاة في كل العصور، ورائد أفلام أظهر لجميع الأجيال قدرة السينما. في الوقت نفسه، ابتعد عن جمهور السينما السائدة. قال ذات مرة: "طوال معظم مسيرتي المهنية، جنيت دخلاً لائقاً من أفلام لم يرغب أحد في رؤيتها".