السلطات الإجتماعية الخفية

عادل نصّار
الإثنين   2022/09/12
الحي الذي أتردد إلى مقاهيه صبيحة كُل يوم فيه، إختلاط ثقافي وإجتماعي ومذهبي متنوع. تبدو السلطات الإجتماعية فيه، غير مرئية، وهذا دليل قوّة لها، إذ إنها ليست بحاجة لإظهار قوتها بشكل دائم كي تُرسّخ احترامها لدى الوافدين إليه.

فهذا الفضاء العام أو ذاك، تجد أنّ تحركات إداريّيه خفيَّة، فهي تتحرك بأوامر تُلقيها على الزبائن عبر الموظفين، رغم أنّها تُصوّر نفسها ورأيها على عكس ما يتصرفه الموظفون، فتبقى هي في الخفاء كي تستقبل شكوى رواد هذه الفضاءات بكل الترحاب، رغم أنها هي من وجَّهَ الموظفين ببث الإزعاج، وذلك كي تُؤكّد على سلطتها بوصفها سلطة رحبة الصدر ومنفتحة على كل الشكاوى التي قد تصلها. أحياناً، تدير الأذُن الصماء، مرفقة بابتسامة كاذبة للقول إنَّنا فهمنا شكواك واستمعنا لك، لكن الجواب النهائي والأخير سيكون بواسطة الموظفين الذين ما عادت لديهم القدرة على الهروب والتملّص من سلطة المسؤول الذي يتصرف مع موظفيه كإله لا يُردّ له طلب. وهو ما لم يحلله أو يتنبه إليه الشاكون من العجز عن كسب ولاءات الموظفين لتشكيل نقابة أو لجنة للتقدُم باعتراضات أو إضرابات مُوجهة إلى مالكي الحلّ والربط في هذه المؤسسة أو تلك، لأجل رفع الظلم والاجحاف بحق الموظفين وحقوقهم.

هناك في الحي، سلطات أخرى تتحكم بمدّ المياه والكهرباء، العامِلَين الضروريَين لتبقى الحياة سائرة المفعول. فقد يكون صاحب السلطة على هذه الشرايين، عامل محطة بنزين أو "فاليه باركينغ"، يتحكّم بإمدادها الى وجهتها طبقاً لمزاجيته. والويل والثبور لمن يطاوله بكلمة او انتقاد، فهو يتحكم بشرايين الحي، والحي نفسه تقوم علاقاته على النميمة، وإذا ما أخطأ أحد ما في لحظة تلاشٍ أو سُكر عما يثير حفيظته في هذا الحي، فربما يكون شريكه في جلسة الاستماع هذه واشياً من الطراز الاول، فيستنطق الضحية عمّا يزعجها، لمآرب خاصة، فينغص سير حياتها لدى السلطات القائمة، ويبدأ بإرسال إشارات للضحية كي تفتح صدرها أوسع لتشمل كل أصحاب المصالح الذين يملكون تسيير شؤون الحي، لتُستخدم أقوالها لاحقاً في حسن انصياعها. وما إن تنتهي جلسة الاعتراف حتى يصُب الشارع جمَّ غضبه على الضحية عبر تدبير مواقف تمثيلية، ولا كأننا في مسرح أو سينما لشدة الإتقان والجودة، وذلك لإعادة إسماع الضحية ما قالته عنها في لحظة غضب.

وقد يستلزم تنفيذ هذه التمثيليات وقتاً طويلاً حتى يُؤتى أكلها، مع ذلك السلطات لا عمل لها ولا وظيفة تشغلها عن تبيان حقيقة ما تلفظت به الضحية. وهذه التمثيليات تكون على امتداد الشارع، وكل من طاولته الضحية بانتقاداتها. فجأة، يُمسي الشارع جهنماً، ومن يضمن ألا تتصدع رأس الضحية أمام كل هذه التمثيليات المواربة والمصطنعة على امتداد كل من له شأن في هذا الشارع وفضاءاته العامة؟

قد يكون الانتقاد من نوع بث شكوى عن أحدهم، إلاّ انه لم يُوصل الأمانة لصاحبها كاملة. فممنوع على الضحية التبرّم، بل عليها اظهار ابتسامتها ملء فمها، وألاّ يفوتها التذكير بأمانة هذا الشخص وفي العلن.

تمثيليات واستكشات توجب أصحاب الاختصاص من مُمثلين وأطباء نفسيين، تقصي حقيقة هذه العلاقات، التي قد تَفصم عقل البعض أو تُحيلهم صرعى بمرض عضال من هذه العلاقات الاجتماعية القائمة على الاضمار. فما يريدون فعله من ثأر، غير ناجم عن غضب، في لحظة يزول، إنما هو غضب مدروس ينفقون فيه الوقت والجهد، حتى لو تعطلت الأعمال، فلا شيء يهم السلطات من هذا. المهم استمرار السلطة وديمومتها كحارسة لتقاليد وعادات الأحياء المسمّاة "النواة الإجتماعية"، ويعود كل مذنب عن خطئه عبر الإعتذار والوعد بالخضوع وعدم تكرار ما ارتكب، وإلاّ فمغادرة الحي الى حيٍ آخر، أو الى المصحّ.