"كورت فونيغت غير العالق في الزمن"

شادي لويس
السبت   2022/08/06
KURT VONNEGUT
أكثر من عشرين عاماً احتاجها كاتب الخيال العلمي الساخر كورت فونيغت، حتى ينال الاعتراف النقدي ويحقق نجاحاً جماهيرياً واسعاً. حدث الأمران معاً، بفضل روايته الأشهر، "المسلخ رقم 5" المعروفة أيضا بعنوان "حملة الأطفال الصليبية". لوقت طويل، كان أسلوب فونيغت السهل وحسه الساخر وراء تصنيف كتاباته في خانة الأدب الخفيف. إلا أن الروح المعارضة للحرب في رواية "المسلخ رقم 5"، الممزوجة بذكريات الأسر على أيدي القوات النازية والقصف الأميركي الوحشي لمدينة دريسدن، وما فيها من تشظٍّ هزلي على خط الزمن وبين العوالم البشرية والكائنات الفضائية، كل هذا لامس مزاجاً جماهيرياً متمرداً ومناهضاً للحرب في فيتنام في ذروة حراك الحقوق المدنية. جعل هذا من فونيغت كاتباً من نوع خاص جداً، نخبوياً وجماهيرياً، في معادلة نادرة، فاصطفت رواياته على رفوف "الأكثر مبيعاً" فيما راح يقبل عليها وعلى محاضراته طلاب الفلسفة في الجامعات. 

في الفيلم الوثائقي "كورت فونيغت: غير العالق في الزمن"، الذي يعرض حالياً في قاعات السينما البريطانية، يشير العنوان مباشرة إلى بطل "المسلخ رقم 5"، وهو من تداوم الرواية وصفه بالعالق في الزمن، حتى لحظة بعينها، بعدها يتحرّر من فخ الوقت، ضائعاً في هذيانه. إذاً هذه سيرة سينمائية لفونيغت تخبرنا بأن "المسلخ" وكل أعماله الأخرى، وعلى الرغم من الخيال الجامح المتضمّن فيها، هي سيرة ذاتية أو جزء منها. لكن ما يتكشف لاحقاً في الفيلم، من لقاءات مخرجه روبرت دي ويد مع فونيغت، وعبر صداقة عمرها أربعون عاماً، هو أن تلك السيرة ليس الغرض منها التوثيق، بل الخلاص من وضعية التعلّق في الزمن، أي التحرّر من ذاكرة الصدمة والشرط البشري الهش إجمالاً.


في أحد المَشاهد، يتبرّم فونيغت من شركات التبغ، فهي وعدته بأن التدخين سيقتله ولم يحدث هذا لوقت طويل. سيعمّر الرجل المولود في عشرينيات القرن الماضي، والذي كان شاهداً على الكساد الكبير، حتى سن الخامسة والثمانين ليشهد سقوط البرجين، ومن بعدها الحرب على العراق. سيبدو لفونيغت أن بلاده كلها عالقة في الزمن أيضاً، فمرة أخرى يُحشد الأطفال في حملة صليبية جديدة، ويكتب هو كتابه الأخير الذي سينشر في حياته "رجل بلا وطن"، فلا شيء في ما يبدو كان قادراً على كسر تلك الدائرة الدموية المغلقة. 

في مشهد آخر، يقف فونيغت أمام لوحة رخامية تحمل أسماء رفاقه في المدرسة الثانوية، يقهقه من قلبه، وهو يقرأ اسماً بعد آخر وطريقة موت الشخص في المعارك. أحدهم لم يذهب حتى إلى معسكر التجنيد، كان يستحم فقفز بفعل الإثارة حين سمع أخبار الحرب، فاصطدم رأسه بالحائط وسقط ميتاً. يخصص فونيغت لتلك الميتة الكثير من الضحكات، وهذا ما فعله دائماً في رواياته، توليد الهزل من أكثر اللحظات مأسوية. كانت هذه طريقته في التداوي، أن يكتب ما كتبه. 

إلا أن الوثائقي الذي يبدو ككشف لمَواطن الفاجعة في سيرة فونيغت، من انتحار الأم وموت الأخت المفاجئ وبعدها أهوال الحرب، يسحبنا بنعومة إلى اكتشاف خط آخر للأحداث، فعبر تلك الصداقة الممتدة بين بطل الفيلم ومخرجه، يسرد الأخير سيرته بالتوازي. فبعدما ظل الفيلم عالقاً لمدة ربع قرن من دون اكتمال، وجد دافعه في إصابة زوجة المخرج بمرض وراثي راح يقتلها تدريجيا ولكن بسرعة، عند تلك اللحظة فقط يواجه روبرت دي ويد ذلك الإلحاح أو التهديد الملزم. 

تنقسم الشاشة في النهاية إلى قسمين، نصف يعرض تتابعاً لصور من طفولة فونيغت وشبابه، والنصف الآخر لصور دي ويد. تبدو تلك المقارنة مقحمة إلى حد كبير، وكأنها انتحال لمجد الكاتب الراحل، لكن وبسبب ذلك تحديداً، تكشف أيضاً أن كل سيرة عن الآخر هي سيرة للذات، وكل كتابة وكل عمل إبداعي هو محاولة لتدوينها وتحريرها من أسر الزمن والضياع فيه.