في مرايا جايمس ويب.. أسرار استمرارية حياتنا الذكية

فادي سعد
الخميس   2022/08/04
"جيمس ويب" سيقلّل من جهلنا.. من يدري ماذا سيجد لنا في أحد الكواكب؟
لدينا بالتأكيد على الأرض من المتاعب والمشاكل ما يكفي انتباهنا المحدود، لكن ذلك لا يمنع من تبجيل الحدث العلمي وتقدير عمق اللحظة في مسار التطوّر الإنساني. إطلاق تلسكوب "جيمس ويب" (كانون الأول 2021)، ثم رؤية صوره الأولى الشهر الماضي لن يكون في تاريخ الحضارة البشرية حدثاً منسياً. ثمة لحظات فارقة تاريخياً. لحظة اكتشاف كروية الأرض، هبوط الإنسان على سطح القمر للمرة الأولى… ولحظة إطلاق تلسكوب يمكن أن يكشف لنا أسرار الفجر الكوني، تصلح لأن تكون لحظة من هذا المقام.

 

بعد رؤية صور "جيمس ويب"، يعود التساؤل البديهي الأقرب إلى الميتافيزيقيا الفيزيائية: إلى أين يمكن أن يوصلنا العلم؟ الثورة العلمية حديثة العهد نسبياً بالنسبة إلى ظهور الهوموسيبيان منذ 200 ألف عام. بات مُتعارف عليه أن كوبرنيكوس أطلق الطلقة الأولى العام 1543. وفي أقل من 500عام، خطّ العلم الحديث مساراً مذهلاً مدوّخاً من الاكتشافات تُعادل آلاف السنين ممّا عرفه الإنسان الحضاري قبل ذلك. التراكم المعرفي الذي يحدث الآن ليس تراكماً خطياً، بل تراكم متسارع أسّي انفجاري يصوّب نظرته إلى أفق لا نهائي. يكفي أن نراجع التغيّر الهائل الذي أصاب حياتنا في المائة سنة الأخيرة بتأثير التقدّم العلمي (اكتشاف مضادات للجراثيم، اكتشاف أبعاد الكون الحقيقية، مكونات المادة الذرية، فك الشفرة الوراثية للإنسان، هبوط أول إنسان فوق سطح القمر، التلفزيون، الأنترنيت، الذكاء الاصطناعي…) لنفهم أن ما ننتظر اكتشافه، بعد مائة سنة أخرى، أو بعد ألف سنة، مجهول بقدر ما هو مخيف في أبعاده اللامحدودة.



يختصر عالِمُ الفيزياء الذرية في جامعة أوكسفورد، البريطاني ديفيد دويتش، تلك الذهنية العلمية المادية الواثقة في قدرتها على احتلال واستكشاف جميع المساحات الميتافيزيقية للوجود المادي بما فيها الوعي البشري. يقول دويتش أن لكل ظاهرة في هذا العالم تفسير ينتظر أن نكتشفه. كل ما يبدو لنا مجهولاً، سببه عدم معرفتنا للتفسير. كل ما علينا فعله، هو المثابرة حتى نجد جميع التفاسير. والتفاسير التي يقصدها دويتش، تلك الوحيدة التي استطاعت إعطاءنا أجوبة قابلة للإثبات وشافية إلى درجة كبيرة حتى الآن، هي تفاسير علمية حصراً.

في المسيرة العلمية الحديثة، لا بدّ من التوقف عند ثلاثة منعطفات شكلّت الملامح الكبرى لعصرنا العلمي الحديث. المنعطف الأول يبدأ عند إسحق نيوتن (1643-1727) الذي أرسى، مستفيداً من التطوّر الذي سبقه في علوم الرياضيات والفلك والفيزياء، منظومة متكاملة لقوانين الفيزياء الكلاسيكية. بقيت هذه المنظومة هي المنظار الذي نفهم ونفسّر من خلاله العالم حولنا، إلى أن عصفتْ ثورة أينشتاين بالبديهيات الفيزيائية لعالم نيوتن الكلاسيكي. أوضح نظريات أينشتاين أن قوانين نيوتن لا تصلح لتفسير ما يحدث على المستوى الكوزمولوجي الكبير. لكن حتى انعطافة أينشتاين الثورية لم تصمد أمام اكتشافات قوانين الفيزياء الكميّة الغريبة. كانت الانعطافة الثالثة في ميكانيكيا الكمّ من أغرب وأكثر الانعطافات العلمية إثارة وتأثيراً في فهمنا لحقيقة الواقع الذي نعيش فيه وعلاقتنا به.

القصد من استعراضنا السريع السابق التأكيد بأن الإنجازات العلمية في النهاية تُغيّرنا. المعرفة تغيّرنا. تُغيّر فهمنا للعالم وعلاقتنا به. تغيّرنا كأشخاص وكحضارة وكمجموعة بشرية تحاول الاستمرار في هذا الوجود الكوني المحفوف بالمخاطر والألغاز. كلّما اكتشفنا تفسيراً ما، أصبحنا أقوى ولو بدرجة ضئيلة، وبتنا أقرب إلى التحكّم والتنبّؤ بمستقبل وجودنا واحتمالاته. كمثال، إذا أردنا حلّ مشكلة الاحتباس الحراري الذي يمكن أن يقضي علينا يوماً، سيكون علينا التحكّم التام بالطاقة الشمسية. تلك إحدى الحلول المطروحة علمياً، وهذا لن يحدث إذا لم نتقدّم تقنياً أكثر.

إنجاز تلسكوب "جيمس ويب" ليس منفصلاً عن الحلقات المتسلسلة لمسيرة العلم السابقة، نظرياً وتقنياً. لزم الأمر 26 عاماً كي يكتمل بناء "جيمس ويب". في البداية كان من المتوقع أن يكلّف المشروع 500 مليون دولار، لينتهي الحساب عند 10 مليارات. أهم ما يميّز "جيمس ويب" عن سابقيه كتلسكوب "هابل"، عدا عن حجم وعدد مراياه، أنه يعمل في طيف الأشعة تحت الحمراء، غير المرئية للعين البشرية. في هذا الطيف، يمكن لـ"جيمس ويب" مدّ نظره إلى أعماق كونية لم يصل إليها تلسكوب من قبل. الهدف هو الوصول إلى ذاك الشعاع الضوئي الأول الذي انبثق من عتمة الكون. يُقدّر أن هذا الشعاع الأول ظهر بعد 200 مليون سنة من ولادة الكون لحظة "البيغ بانغ" قبل 13.8 مليار عام من الآن.

 


في الأعوام الـ200 مليون الأولى بعد "البيغ بانغ"، كان الكون حاراً جداً وكثيفاً جداً. كان خلطة مصمتة جحيمية من البلاسما لا يمكن حتى للضوء أن يخترقها. بعد 200 مليون عام، برد الكون إلى درجة كافية كي تبدأ الإشراقات الضوئية الأولى بالانتشار عبره. في ذلك الفجر الكوني، بدأت النجوم والمجرات بالتشكل بفعل الجاذبية. "جيمس ويب" يطمح إلى رؤية تلك التشكّلات النجمية الأولى. تلك المجرّات السحيقة التي لم يرها أحد من قبل.

طموحات "جميس ويب" تتحقق أسرع من المتوقع. الصور تتلاحق. في 27 تموز، استطاع "جيمس ويب" رصد مجرة عمرها 235 مليون سنة فقط بعد ولادة الكون (مجرة سيرز-93316). هذه أبكر مجرّة نراها حتى الآن. وهي، للمفارقة، أقدم مجرّة نراها أيضاً. فالضوء من هذه المجرّة، عَبَر جسد الكون وزمانه لمدة 34 مليار سنة ضوئية (بسبب تمدّد الكون) حتى وصل إلينا الآن. مجرة "سيرز" بالتأكيد لم تعد موجودة الآن. وإنجازات ويب تتراكم: صور دقيقة لموت النجوم وولادة المجرات، رؤية (وإعادة إثبات) ما يُسمّى بـ"التأثير العدسي الثقالي"، أحد تنبؤات نظرية النسبية العامة لآينشتاين. والأهم، بسبب دقته العالية، القدرة على دراسة الأغلفة المحيطة بكواكب بعيدة جداً من الأرض. ماذا سيعني لو وجدنا غلافاً جوياً يشبه غلافنا الأرضي؟ استطاع "جيمس ويب" تحليل غلاف أحد الكوكب الذي يبعد عنّا 1150 سنة ضوئية، كوكب "واسب-96ب". البيانات الطيفية لهذا الكوكب أظهرت أن غلافه يحوي على بخار الماء، إضافة إلى وجود غيوم وضباب. من يدري ماذا سيجد لنا "ويب" في أحد الكواكب في المستقبل؟ 

مرايا "جيمس ويب" ليست فقط عينَين موجهتين إلى أصقاع الكون البعيدة. بل هي أيضاً آلة زمن للعبور نحو الماضي. نحن نرى في مرايا "ويب" الكون كما كان قبل مليارات السنين. نرى الكون في أماكن وأزمنة مختلفة. "جيمس ويب" مصمم بهذا الشكل، كي يُرينا قطعة صغيرة لكن عميقة من الكون. وسيظلّ يبحث عن أقدم شعاع ضوئي كوني إلى أن يصطدم بذلك الجدار الذي يفصلنا عن الـ200 مليون سنة أولى بعد ولادة الكون، أو ما يُسمّى بالعصور الكونية المظلمة، حيث لا ضوء ولا تاريخ.

قبل القرن السابع عشر، لم يكن أحد يعلم أن الخلية هي الوحدة الأساسية للكائنات الحيّة. كان علينا اختراع المجهر كي نعرف. جهلنا السابق لا يعني أن الخلية لم تكن موجودة منذ بدء الحياة. "جيمس ويب" سيقلّل من جهلنا ويكشف لنا الكثير من الأسرار التي لا نعرف بعد بوجودها. ربّما نكتشف أن استمرار الحياة الذكية برمّتها متوقف على ما نتعلّمه من "جايمس ويب" وسواه.