غورباتشوف..من مجد البرويستريكا الضائع إلى بائع البيتزا

محمد حجيري
الأربعاء   2022/08/31
زمن البيتزا
في الخمسينيات، كثرٌ من اليساريين والشيوعيين كانوا يقدّسون "الرفيق" الحديدي جوزيف ستالين، يعتبرونه بطل "المقاومة" ومكافحة الفاشيستية، ومن يراجع صفحات المجلات والصحف اليسارية اللبنانية والعربية في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، لا بدّ أنْ يلاحظ أنّ عشاق ستالين في سوريا أو لبنان، كانوا مندفعين بشغف للحديث عن نظريات أو أفكار آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، وقد استُهلكت أنهار من الحبر وأطنان من الورق والكتب والمنشورات والندوات في العواصم العربية، كلها في سبيل الحديث عن "عظَمة" البيريسترويكا وسياسة الغلاسنوست والتي تعني الشفافية، باعتبار أنها ستأخذهم إلى بر الأمان، وتخلّصهم من الجمود والرتابة والبيروقراطية الحزبية وتعيدهم إلى "الثورية"...

في ذلك الزمن، كان لبعض حاملي المظلّات في بيروت في انتظار أن تمطر في موسكو، أن يكتشفوا على هامش النقاش حامي الوطيس، أموراً لم تكن في حسبانهم، هم المصابين بعمىً إيديولوجي وعقائدي... أظهرت لهم نقاشات البرويستريكا وأخبارها اليومية، هشاشة النظام السوفياتي الذي كان سباقاً في الوصول إلى الفضاء، انتبهوا كيف أن هذا النظام قاهر النازية لم يكن قادراً على صنع آلة حاسبة تُباع في بَسطات بيروت، ولا على تطوير برّاد منزلي. تبيّن لهم أن البلد الشاسع مترامي الأطراف، لديه مصانع نووية، لكنه غير قادر على إنتاج المعكرونة، وأن الشعب الذي حكمته الشيوعية من 1917 إلى 1990 يشعر بدونيّة أمام بنطال الجينز الأميركي...


(ثقافة الماك)

وفي 31 يناير 1990، كان المشهد الهذياتي في موسكو. حيث اصطف حشد بلغ عدده آلاف الأشخاص في ساحة بوشكينسكايا، قبيل افتتاح فرع ماكدونالدز للمرة الأولى. وقتها، التفتت أنظار العالم كلها إلى العاصمة السوفياتية، كأنها تعيش فتحاً أو انهياراً، فهذه كانت أول مرة يُسمح للمنتجات الأميركية أن تُتداول في موسكو، والوقوف في طوابير لم يكن مشكلة للروس الذين اعتادوها منذ اندلاع الثورة البلشفية للحصول على حصتهم الشهرية من المواد الغذائية، لكن الأمر بات مختلفاً أمام وجبات ماكدونالدز. فقال المصور الروسي ميتيتا كشيليفيتش، الذي التقط عشرات الصور في ذلك التاريخ، أنهم وقفوا تحت أشعة الشمس الحارقة لنحو 8 ساعات.

واللافت في الأمر أن الشعب لم يكن معتاداً على هذا النوع من الطعام الأميركي، لدرجة أن الطوابير أمام المرحاض كانت مشابهة للطوابير التي تقف خارج المطعم، فـ"معظم من أكلوا لم تتحمل أمعاؤهم هذه اللحوم الدهنية". كان ظهور رمز الماكدونالدز في موسكو، العام 1990، أمام الكاميرات، يماثل إسقاط تمثال صدام حسين في بغداد العام 2003 أمام الكاميرات أيضاً.  بدا الهمبرغر أقوى من البيان الشيوعي ومن البيرويستركا. وبالطبع، أمام تدهور المنظومة الاشتراكية وانتشار "ثقافة الماك"، انتبه الستالينيون العرب أن حبر نقاشهم ذهب هدراً، بل إن بعض إعلامهم أقفل إثر شحّ التمويل، وتحول الرفيق غورباتشوف من مُنظّر لإعادة البناء إلى شيطان رأسمالي و"خائن". وعاد الرفاق للحديث عن أزمة الاشتراكية، وساقوا كميات هائلة من النقاشات في إطار اسطوانة "الاشتراكية جيدة والمشكلة في التطبيق"، فظلت موسكو قِبلتهم رغم انهيار شيوعيتها، وظل شعارهم "وطن حر وشعب سعيد".


وغورباتشوف، "صانع" البرويستريكا، و"المساهم" في توحيد ألمانيا و"إنهاء الحرب الباردة"، الذي يرثيه الآن الرئيس الأميركي جو بايدن لغاية في نفس يعقوب أو أميركا، خانته الأيام، فبدا أنه أنيط بدور تفكيك الاميراطورية السوفياتية فحسب، وتقاعد أو فشل أو أُقيل أو تخلّى عن سلطانه. وكان ظهوره في أحد الإعلانات التجارية داعياً الى تناول البيتزا، الطبق إيطالي الأصل الذي انقلب أميركياً، بمثابة صدمة للكثير من الروس و"الرفاق"، وأتبعته وكالات الأنباء بصورة أخرى لغورباتشوف مع حفيدته يدعوها لتناول طبق البيتزا. وعمدت بعض الصحف العربية وحتى الأجنبية التي نشرت الصورة، إلى شرحها في نص يسخر من رأس الإمبراطورية، وألمح الشرح الى تذرع غورباتشوف باحتياجه الى عائد الشريط الدعائي، لتمويل مركز أبحاث يرعاه، وهو ما صرح به غورباتشوف نفسه. وبحسب بعض التعليقات الرائجة، لم يكن هذا الإعلان مجرد دعاية عادية، بل تعمّد صانعوه إيصال رسالة ضمنية مفادها إعلان "انتصار" الغرب والرأسمالية على الاشتراكية عبر مضمون الإعلان الذي ظهر فيه الرجل الكهل والسوفياتي السابق وهو يصطحب حفيدته لتناول البيتزا في أحد مطاعم الشركة الأميركية، العدو السابق ورمز الإمبريالية الغربية بما "يمثله من نجاح الغرب في التسلل إلى عقر دار الروس وفرض ثقافته على الجيل الجديد منهم". وسخرت مقالات من غورباتشوف الذي كان يتربع فوق آلاف الرؤوس النووية، ورأس الامبراطورية الشيوعية المتهاوية أو المنهارة، فنزل أو أُنزل عن السلطان خاوي الوفاض من غير دراهم أو حفنة دولارات، شأنه شأن فنان تافه أو نجم رياضي، راح يبحث عن المال من إعلان أو شريط مصور.


(غورباتشوف بوتين)

بالطبع، يبقى الرئيس غورباتشوف، نجم إعلان البيتزا المتبذل، أفضل بكثير وبمئات المرات من الرئيس الجائر و"الممجد" الذي يخرج(أو لا يخرج!) من سلطانه وفي رصيده بحر من الدم، ورهط من المجازر والمقابر، وخزائن من الثروات والأملاك وكمٍّ من الفضائح...

الآن رحل غورباتشوف، وهو كان غائباً في السنوات الأخيرة، واقتصر حضوره الإعلامي على تصريحات عابرة أبرزها قوله "إن الستالينية تعود إلى روسيا"، ويلمح بذلك إلى طريقة حكم فلاديمير بوتين، الذي كان ضابط "ك ج ب" في زمن انهيار الاتحاد السوفياتي، ويحاول الآن أن يستعيد "مجد" روسيا في حربه على أوكرانيا، مدعوماً بنظريات قومية وفاشية، وما يفعله بوتين كأنه صورة مقلوبة لما فعله غورباتشوف.