خمسون ناطورة المفاتيح.. ثورة الهجرة

محمود الزيباوي
الإثنين   2022/08/29
فيروز... زاد الخير.
منذ خمسين عاماً، قدّم الأخوان رحباني مع فيروز في بعلبك، مسرحيّتهما الغنائية "ناطورة المفاتيح" في عشرة عروض، ثمّ انتقلا بها إلى مسرح معرض دمشق الدولي حيث عرضت لمدة ستة عشر يوماً. استُقبلت هذه المغناة بحفاوة بالغة منذ عرضها الافتتاحي الأول، ودخلت سريعاً في الذاكرة الجماعية، ولا تزال إلى يومنا حيّة في هذه الذاكرة.

في ربيع 1972، بدأت الصحافة تتناقل خبر عودة الأخوين رحباني وفيروز إلى بعلبك بعد غياب سنتين متلاحقتين، أي منذ تقديم مسرحية "جبال الصوان" في صيف 1969. في الأسبوع الأخير من نيسان، عقدت لجنة الفولكلور اللبناني الخاصة بمهرجانات بعلبك، اجتماعاً ضم أعضاء اللجنة بحضور جورج شحادة، سعيد عقل، يوسف إبراهيم يزبك، ورشدي المعلوف، حيث جرى التفاهم مع الأخوين رحباني حول السيناريو المقترح للمغناة التي ستقدم ضمن "الليالي اللبنانية". اتفق الحاضرون على عقد اجتماع آخر في الأسابيع المقبلة لمتابعة الصيغة النهائية للسيناريو، وقيل يومها إن الأخوين رحباني طرحا اسمين متوقّعين للمغناة هما "ملك المملكة المهجورة" و"ناطورة المفاتيح"، وأنّ الفكرة الرئيسة لهذه المغناة "تدور حول ملك تهجره رعيته، ما عدا فتاة واحدة هي فيروز، فيتمسّك بها، ويحاول أن يجعل منها وحدها شعبه كلّه".

في نهاية أيّار، أجرى رياض شرارة حواراً طويلاً مع منصور رحباني نُشر في "الشبكة"، وفيه تطرّق إلى المغناة المنتظرة، وقال: "مسرحية بعلبك الجديدة أسموها غصباً عنّي "ناطورة المفاتيح"، ولو خُيّرت لأطلقت عليها اسماً طويلاً لكنّه مليء بالسحر الذي نعرفه في قص الأطفال، كنت أسميتها "حكاية زاد الخير وما جرى لها مع ملك المملكة المهجورة". وأضاف: "المسرحية تروي قصة ملك يوقّع بإمضاء "خادم الشعب المحب"، في الوقت الذي يزيد فيه الضرائب غير المنطقية، وآخر شيء قام به هو انشاء ضريبة أسماها "حصّة الملك" تدخل في ممتلكات الناس ومداخيلهم، وكل من لا يدفع الحصّة يؤخذ للشغل بالسخرة، كي يفي بالقيمة المطلوبة. وتضجّ المملكة من الوضع الظالم، ويقرّر الشعب برمّته مقاطعة الملك وإسقاط الحكم بشكل جديد، فتهاجر المدن والرعية والأطفال، وتبقى فتاة واحدة اسمها زاد الخير، هي فيروز، سلّمها المهاجرون قبل رحيلهم مفاتيح البيوت. تبقى زاد الخير وحيدة الرعية، ويخاف عليها الملك ويحقّق كل مطالبها مخافة أن تهاجر هي الأخرى، فيصبح بلا رعية، لكنه في الوقت ذاته يخاف منها أيضاً، لأن كلمتها صارت موحدة واحدة، فيقرّر أن يخرج المساجين من السجون كي يؤلفوا هم بدورهم رعية، لكن ما أن يتنشّق هؤلاء هواء الحرية حتى يهاجروا، خوفاً من العودة ثانية إلى السجن، وتتابع أحداث الرواية، لتنتهي فصولها في بعلبك في شهر تموز المقبل".

"الضمير بيتعّب يا جاد"
في منتصف تموز، عقدت لجنة مهرجانات بعلبك مؤتمراً صحافياً قدمت فيه المسرحية المنتظرة. وقال عاصي رحباني في هذا المؤتمر "ان أنطوان كرباج الذي سيقوم بدور الملك في المسرحية وسينشد أغنية، وسيشاهد الجمهور حياة الملوك الخاصة وأمام الناس"، ثم عاد وأضاف بأن الموسيقى ستغطّي الجزء الأكبر من المسرحية هذا العام. قُدّمت "ناطورة المفاتيح" في عرض افتتاحي مساء الخميس 20 تموز، تلته تسعة عروض من 21 لغاية 29 تموز، وبدا أنها اتّبعت في خطوطها العريضة الصيغة التي اختزلها منصور رحباني في حديثه، وانفتحت على أحداث وفصول يصعب إيجازها. تبدأ الرواية بفرمان يتلوه على الشعب قائد الحرس الذي يقوم بدوره جوزيف ناصيف: "الإرادة الملكيّة والكلمة العليّة، من غيبون الملِك العادِل، غيبون الملك الطيّب، إلى شعبه ورعيّته، في أنحاء مملكة سيرا، بمزيد من الفرح نعلمكم، أنّنا أسّسنا ضريبة عليكم لصالحكم سمّيناها حصّة الملك. كل محصول أو منتوج، أو موسم عقار، الملك إلـُو مـِنّو النصّ. وكل من لا يدفع، يؤخذ للشغل بالسخرة". يرضخ الشعب، ويقول: "مـنِدفـَع حصّة المَلـك، بفرح الأطفال، بالنّفس الرضيّة بكرم الشجر". وحده بربر، ويلعب دوره نصري شمس الدين، يسأل: "يا حضرة القايد، ضرايب عم ندفع، حصّة الملك لشو؟".

لا تملك زاد الخير مالاً تدفعه، فتُساق للعمل بالسخرة كي توفي حصّة الملك، ويودّعها الناس: أخدو زاد الخير، متل العصفورة الوحيدة أخذو زاد الخير، لأنّو ما لقيو عندها شي ياخدوه". تدخل زاد الخير القصر وتحاور الملك، ويأمر بتركها بعد أن تعمل "بزقّ الحطب". يصل مرافق الملك جاد الحكيم، ويلعب دوره وليم حسواني، ويدخل في حوار صريح مع الحاكم، فيحدّثه عن شروط الحكم، "العدل والمحبة وراحة البال"، وهي الشروط التي يمكن اختصارها بكلمة واحدة، هي "الضمير"، فيسخر الملك منه، ويقول: "الضمير بيتعّب يا جاد، الخمرة بتريّح أكثر". يواصل جاد الحكيم الكلام، ويعترض على "حصّة الملك" بخفر، ويضيف: "ما حدا بيقدر يحبس الميّ. والناس متل الميّ، إلّا ما تـلاقي منفذ تتفجّر منّو". تدخل مجموعة من عناصر الأمن، يسوقون رجلاً مكبّلاً يُدعى مراد الأسمر، يلعب دوره جوزيف صقر، ويتضح من خلال الحوار، أنّه كان زميلاً للملك في أيام الدراسة. يرفض الرجل المكبّل أن يركع أمام الحاكم، فيأمر الأخير بحبسه مئة سنة مع أولاده الثلاثة، ثمّ يغنّي عابثاً: "يا نجمة الليل ضوّي عالبراري، صديقي ضايع يا نجمة الليل، يا نجمة الليل نوحي بالبراري، عم يبكي صديقي يا نجمة الليل". يصل خبر اعتقال مراد الأسمر إلى الناس، ويدعوهم بربر إلى التمرّد: "صرنا متل الحيطان بيضربونا ما منتحرّك، ليش ما منرفع صوتنا ومنصرخ؟" ثم يؤكد أن الحل هو في الرّحيل: "إذا في ناس عندُن كرامة، بليلة ما فيها ضوّ قمَر، متل رفوف الطير بيهاجروا عن هالمملكة، وبيتركوله البيوت الفاضية وصوت الدياب". يسعى الناس إلى تحاشي الدخول في هذا السجال، ويغنون: "بلا سيرتو، إلّي عندو حصيرة كبيرة أم صغيرة، يقعد عحصيرتو، بلا سيرتو".

تعود زاد الخير، ويحتفي الناس بعودتها، ثمّ يعود الحديث عن مراد الأسمر، ويدخل فلاح بسيط يُدعى ديك المي، يلعب دوره إيلي شويري، حاملاً إلى الناس أول قطفة من اللوز الذي زرعه. يغني الجميع مع ديك المي، فيصل الحرس، ويتمّ إيقاف هذه الحفلة. يُساق ديك المي ظُلماً إلى السجن، ويُجلد حتى الموت، وينقل قائد الحرس الخبر إلى الملك: "في متمرّد هاجم الحرس وشتم جلالتكنن، حاول الهرب اضطرّوا يقتلوه"، ويردّ الملك بسخرية عابثة: "مـا كُنتَ ديك الميّ أوّل فارس، يـوم الرَّدى أرديته بسلاحه". على وقع هذه الحادثة، يشرع الشعب بالرحيل عن المملكة، وتدخل زاد الخير في حوارية غنائية بديعة مع بربر، تعلن فيها أنها ستبقى وحدها عند باب بيتها. يرحل الجميع، وتنسدل ستارة الفصل الأول على وقع أغنية "وينن... تركولي المفاتيح، تركوا صوت الريح، وراحوا ما تركوا عنوان".

الخاتمة الطوباوية
يبدأ الفصل الثاني مع الاستعداد لاستقبال الملكة العائدة من السفر، وتلعب دورها هدى. يفاجأ قائد الحرس برحيل الشعب، ويفاجأ الملك والملكة بهذا الاستقبال الذي غاب عنه الناس. يقول القائد للملك: "المملكة صارت مهجورة، شملها الصمت، وما بقي إلّا زاد الخير وخيالات الصحرا". ويعلّق جاد الحكيم: "ما حدا بيعرف كيف بتتفجّر المي. أنا بعرف ثورات وإضرابات ومقاطعة السلطة، بس شعب يهاجر كلّو، ما بعرف". يقرّ الملك بهزيمته ويسأل زاد الخير: "أنتي ليش بقيتي؟"، فتجيبه: "هيك، لازم حدا يبقى، سلّموني مفاتيح بيوتن، رسموني ناطورة المفاتيح". هكذا أضحت ناطورة المفاتيح هي الشعب، وباتت هي الرعية، وبات على الملك أن يواجه مشكلة من نوع جديد: "لمّا كانت الرعية موجودة، ما كانو يتفقوا على رأي، شي بيقولو أيه وشي بيقولو لا، ولمّا زاد الخير صارت الرعية، صارت الكلمة واحدة، يا إيه، يا لا". تعود به الذاكرة إلى مراد الأسمر، ويصرخ: "أيُكـْتـَب لهذا الملك التعيس أن يحمل كيسه ويندار يشحد على أبواب الملوك؟". ثم يأمر بإطلاق المساجين لتكون له رعية. ينطلق المساجين على وقع أغنية "طلعنا على الشمس طلعنا للحرية"، وسرعان ما يلحقون بالشعب الذي رحل من قبلهم، وبعد رحيلهم، تبتهل زاد الخير وحدها إلى "شمس المساكين"، ثم تدخل في حوار مصيري مع الملك، وتعلن أنها سترحل بدورها نحو أرض جديدة، وتضيف في الختام: "وكل ما إبعد مسافة، عرشك بيغرق شبر حتى توصل إنت للأرض وأنا للحريّة".

كما في قصص الأطفال، أختار الأخوان رحباني لمسرحيتهما نهاية طوباوية. يتوسّل الملك إلى زاد الخير كي تبقى، ثم يطرق أبواب البيوت المهجورة، وينادي أصحابها بحزن كي يعودوا. يعود الناس، ويغني الملك معهم: "شو أنا بلاكن، أنا بيدر مهجور، أنا قشّة بالريح، أنا بيرق مكسور". وهكذا في الختام، صار الحاكم من الناس، و"انغفرت كل الخطايا"، كما يغني بربر.

آيات الفن والجمال
استُقبلت "ناطورة المفاتيح" بحفاوة بالغة منذ عرضها الافتتاحي الأوّل، كما جاء في خبر مقتضب: "الخميس الماضي، حلّقت فيروز في أجواء الفن والابداع، وهي تردّد: وينن، وين راحوا الناس، وتركوا الساحات المهجورة. وكان هناك اجماع بأن "ناطورة المفاتيح" التي بدأ تقديمها رسمياً يوم الجمعة، أعادت إلى بعلبك زهوها ومجدها الفني، وشمخت إلى أقصى درجات الشموخ. وتستمرّ المغناة حتى 29 تموز الحالي، لتعطّر مهرجانات بعلبك بكل آيات الفن والجمال". على مدى هذه الأيام، توالت المقالات الصحافية التي تتحدث عن هذا العمل الفذ، وتطرّقت إلى جوانب عديدة، منها الفنية والسياسية والاجتماعية.

وانتقلت المسرحية إلى مسرح معرض دمشق الدولي لتعرض لمدة عشرة أيام ابتداءً من 31 آب، وجرى تمديد هذه العروض أسبوعاً إضافياً، بطلب رسمي من مدير المعرض. ورافق هذه العروض سيل آخر من المقالات التي تحتفل بهذه المسرحية. تستحقّ هذه الكتابات التي رافقت الحدث وقفة أخرى تلقي الضوء على الأثر الكبير الذي تركته هذه المسرحية، وهو الأثر الذي ما زال صداه يتردّد اليوم، بعد مرور نصف قرن.