تخوين ابراهيم الكوني يفتح صندوق باندورا الليبي

أسامة فاروق
الثلاثاء   2022/08/23
الكوني: "ابتهجتم بمصابي، وأردتم لي الموت، فخذلتكم العناية الإلهية"
لا يمكن التعاطي مع مقال الروائي الليبي إبراهيم الكوني، الأخير، بمعزل عن الهجمة الشرسة التي يتعرض لها مؤخراً. بل هو في واقع الأمر، رد واضح ومباشر عليها، ويكشف عنفه مقدار ما تعرض له من أذى.

كتب الكوني في مقاله الأسبوعي في موقع الكتروني، الأحد الماضي، عن "بنات آوى" تلك الكائنات الوحشية المهجنة من الضباع والذئاب والكلاب البريّة، ووحوش أخرى، التي لا تثق في بعضها البعض، والمستعدة دوماً لافتراس أي شيء حتى أبناء جلدتها "وبسبب هذه الرذيلة الفظيعة، المعادية لقانون الطبيعة، فازت هذه المخلوقات بنصيبٍ سخيّ من أساطير أمّة الملثّمين، لتكتسب أبعاداً ميثولوجيه، اعتادت أن تسوّقها في وصاياها مثالاً لأشنع قيمة لا أخلاقيّة في ناموسها، وهي: الغدر!".

يحكي الكوني سيرة الرجل الذي طاردته تلك الوحوش حتى احتمى بفروع شجرة عالية، وتغلب عليها بأن أسقط قطرات من دمه على واحد من القطيع المرابط أسفل شجرته، فما كان من القطيع إلا أن انشغل عنه بمهاجمة الضحية التي تحمل الدم، ليقول بشكل مباشر: "هذه القطرة من الدمّ، الناجمة عن نزيف الجسد، إثر حادث سير مشؤوم أصاب شخصي، هو ما اشتمّته «بنات آوى ليبيا» لتكشّر عن أنيابها المسمومة، فتتسابق في طلبي، في هجمةٍ مسعورةٍ، طمعاً في استقطاع نصيبٍ من لحمي!".

روح ليبيا
قامت الدنيا على الكوني في الأيام الماضية، بسبب بعض المقولات المنسوبة له والمقتطعة من حوار سريع مع الكاتب والروائي المصري أحمد شوقي علي، أجراه على هامش مهرجان القاهرة الأدبي، ونشر في "المدن" العام 2016. قال فيه إجابة على سؤال عن معنى الوطن: "الوطن هو المكان الذي يحتويك، لا الذي يلفظك، أنا لا أخجل من أن أقول إن وطني هو سويسرا، أنا من صنعت لليبيا مكاناً في العالم، وكتبت رواياتي باللغة العربية ولم أكتبها بالأمازيغية أو الروسية أو الألمانية، رواياتي هي روح ليبيا.. أنا روح ليبيا، لكن ليبيا المكان غرّبني بسبب هويتي، بينما في ألمانيا –مثلاً- هم يدرّسون رواياتي للطلبة في المدارس، وفي سويسرا كرّموني ومنحوني الجنسية، فقل لي بظنك أيهما الوطن بالنسبة إلي؟". تُتداوَل تلك العبارات الآن في فضاء الانترنت مصحوبة بلعنات لا حصر لها للكوني، ومشروعه الأدبي، باعتباره سويسرياً متنكّراً لبلاده الأصلية! وبدلاً من مناقشة التصريحات وتدارك أسباب الغضب الواضح، انبرت عشرات الأقلام الليبية لتكذّبه وتخوّنه وتشيطنه، وتشير إلى أنه لم يكن منبوذاً على الإطلاق في أي وقت، بل تؤكد قربه وبعض أفراد أسرته من النظام السابق باعتباره من "المَرضي عنهم".

الانتباه المتأخر للحوار ربما كان بسبب إعادة شوقي نشره في تهنئة كتبها في صفحة الكوني بمناسبة عيد ميلاده، مطلع الشهر الجاري، وإن كان شوقي نفسه غير متأكد تماماً إن كان هذا فقط ما أعاد التذكير بالحوار. يقول إن عيد ميلاد الكوني تزامن مع تعرضه لحادث سير دخل على إثره المستشفى، وربما وجدها أحد ضيقي الأفق فرصة للنيل منه، فقال إنه تنكّر لوطنه بهذه التصريحات. وطاول شوقي بعض الأذى أيضاً بالتشكيك في ما نسَبه للكوني، فربما ظن البعض أنه "الحلقة الأضعف" في السلسلة، كما يقول، رغم تأكيده بأنه قابل الكوني بعدها ولم يبدُ على الرجل أي ضيق من المادة المنشورة والتي يتم التشكيك فيها الآن.

كرة الثلج
بعد خروج الكوني من المستشفى، نشر في صفحته رسالة توضح حجم الغضب الذي يعتمل داخله جراء ما طاوله من اتهامات، جاء فيها: "ابتهجتم بمصابي، وأردتم لي الموت، فخذلتكم العناية الإلهية، عندما كتبت لي الحياة. ألا تدرون، يا ملّة العدم، أني سأحيا حتى لو كنتُ في عداد الأموات، في حين أنكم أمواتٌ حتى وأنتم قيد الحياة؟!". بعدها مباشرة، تلقى شوقي رسالة من الكوني برأته وعوضته عن "السخافات" التي تعرض لها، قال له فيها: "كان نصك وجدانياً، مشفوعاً بلغة الشعر، التي لا مكان لها في واقع ثقافي مفلس". وقال أيضاً ما يمكن اعتباره تهيئة للمقال الذي نشره لاحقاً: "أبارك نشركم لهذه الإدانة، لأن صندوق باندورا قد انفتح، بسبب معالجتكم القدرية، وليس على الأشباح إلا أن تحتكم إلى ظلماتها".

كان ذلك كله مقدمة منطقية للمقال الذي نشره الكوني بعد ذلك في "سكاي نيوز"، بعنوان "بنات آوى ليبيا في محكمة الحكمة(1)"، وكان أعنف وأكثر حدّة ووضوحاً من المقولات المنسوبة إليه. بدأه بالقول إن "الأنبل من الأوطان التي نسكنها، هي الأوطان التي تسكننا، لأن الأوطان التي نسكنها غنيمة مكان، لكن الأوطان التي تسكننا قيمة وجدان". وأنهاه بسؤال يحمل الجواب في طياته "أين الموقف من النصّ في هذه الجعجعة الشريرة التي لا تتوقف منذ استطاع مبدع النصّ أن ينتهك الحُرُم، ويحطّم قوقعة الدوّامة المحليّة المفلسة؟ ألم نعتد أن تكون مكافأة التفوّق قصاصاً مميتاً، مستَنزَلاً بمشيئة الفشل، أو بالأصحّ الحسد، كما برهنت التجربة؟ ألم تغدُ نزعة شَنّ الهجوم على الشخص، عندما يُرادُ تجاهل النصّ ناموساً في حقّ الأدب".

وقال غيرها وغيرها في مقال حاد يحتاج لقراءة متأنية، أكد فيه أنه يعرف أن لمواقفه ثمناً يجب أن يدفع كاملاً "ولمّا كان بطولةً، فهذا سيعني أنه ليس بلا مكوس. ليس بلا قرابين. ليس بدون الاستعداد لدفع الثمن غالياً. وليس له أن يستفزّ سدَنة القطيع المسعور، الظامئ للارتواء من الدمّ، الذي برهن للعالم أجمع في الآونة الأخيرة على معدنه، الملفّق من سجيّة «بنات آوى»، وإلّا لما غرق في لغو دم واقعٍ، الكلّ فيه ضدّ الكلّ، تماماً كما قضت شريعة «بنات آوى» الأسطورية".

لكن الغريب أن يُقابَل هذا كله بالصمت، واستمرار اجترار التصريحات القديمة، هل استغلق عليهم كلام الفيلسوف؟، ربما، وربما هناك أسباب أخرى ستظهر خلال الأيام المقبلة، بعد نشر الجزء الثاني من المقال الذي نوّه الكوني بنشره في جزأَين.

لماذا الآن؟
الشاعر الليبي خالد مطاوع قال لـ"المدن" إن الحملة على الكوني، واحدة من ممارسات بدأت تتكاثر في ليبيا، ابتداءً من صدور كتاب "شمس على نوافذ مغلقة"، الذي اتهم بتضليل الشباب وربما تشويه سمعة ليبيا، بعدها جاء فوز رواية (الليبي) محمد النعاس بجائزة البوكر، ليقابل بمردود سلبي في بعض الأنحاء، لأنه يحلل شخصية شائكة ويغطي جوانب شاملة من حياتها الخاصة، واتهمت الرواية بالبذاءةَ! "بالنسبة للروائي إبراهيم الكوني سبق أن سمعت بعض النقد بخصوص تركيزه علي الصحراء فقط، وعلاقته مع النظام السابق، لكنها بقيت مع احترام لقدراته الأدبية وكونه مشروعاً أدبياً وإنسانياً كبيراً".

لا يظن مطاوع أن تلك الحملة ستؤثر في الكوني ومكانته الأدبية في العالم، وفي ليبيا على المدى الطويل أيضاً. لكنه، في الوقت نفسه، لا يرى أي تفسير عقلاني لهذا الهرج الآن، ولا لماذا تم الالتفات لهذا المقال في هذا التوقيت بالتحديد، ولماذا انضمت للحملة أصوات متعددة. يقول إن لوغاريتمات الفايسبوك، للأسف، مركّبة بحيث أنها تؤجج هذا النوع من الحملات، وأيضاً طريقة تعامل الناس معها في العالم، هي أن تقفز على المعلومات المشينة، سواء كانت صحيحة أم لا، "وفي ليبيا حيث الوضع الاجتماعي والسياسي متأجج أساساً، فأي اخبار سيئة تستقطب الناس ليصبوا عليها سخطهم جراء أوضاعهم عموماً... هذه مشكلة ليست ليبية بالذات، لكنها حصلت في ليبيا وكان للأسف واحد من أكبر روائيي عصرنا ضحيتها".

فخ
الكاتبة الليبية رزان نعيم المغربي، ترى إننا ربما نذهب بعيداً في تأويلات ما حدث، حيث انقسمت ردود الأفعال بين قلة تلتمس العذر للكوني بأن المقاصد من عبارته مجرد مجاز للتعبير عن أعماله الإبداعية التي شقت طريقها إلى العالمية، قبل غيرها من أعمال ليبية أخرى، وبين كثرة تهاجمه وتنعته بصفات فيها الكثير من العدوانية وتتهمه بخيانة الوطن. ووفق متابعتها، فإن معظم رواد السوشال ميديا، ممن شنوا هجوما لاذعاً، ينتمون إلى فئة الشباب، بعضهم اعترف أنه لم يقرأ للكوني أي كتاب، بل إن أحدهم قال إنه لم يسمع به. الغريب واللافت، كما تقول، إن بعض الإعلاميين الشباب لم يتحرَّ مصدر الخبر وأخذ الكلام بمعناه الظاهر: "عُرف الروائي إبراهيم الكوني بأن لغته ليست في متناول الجميع، كتاباته تحتمل تأويلات متعددة، لهذا لُقّب بفيلسوف الصحراء أيضاً، وربما لهذه الأسباب نشأت هوة بينه وبين من يستسهل القراءة في فهم المقصود مما نسب إليه". كما أن معظم الكتّاب وقع في الفخ نفسه: "عدم التأكد مما نشر أولاً، أو مقارنته بتصريحات سابقة له أو بمقالات كتبها عن وطنه، وبدأت حملة من الكتابات تُنشر ضده وتُدينه، ما أثار غضب الكاتب، وكان ردّ فعله الغاضب بعبارات أشد غموضاً أصبحت مثل حجر حرّك المياه الساكنة مجدداً".

والمسألة كما تلخصها المغربي، تتعلق في ما يخص الانتماء العاطفي لمكان ما، وهو أمر شخصي وخاص ومتغير وليس ثابتاً، "ولا أظن أن الكوني في ما كتبه يقصد خلع هويته الليبية التارقية، والعربية لغة يكتبها، فهذه مسألة ثابتة لصيقة بالإنسان مثل اسمه وعائلته حتى لو أضيفت لها صفة السويسري بحكم نيله جنسية البلد الذي أقام فيه سنواتٍ طوال". أخيراً، تقول المغربي "إن الأمر يبقى في يد إبراهيم الكوني في حال أنكَر ما نُسب إليه أو تجاهَله". والأرجح أنه قال بالفعل كلمته، وسيكملها.