كاريكاتير الموسيقى وكاريزما أم كلثوم.. مَرصد فناني العالم

شريف الشافعي
الثلاثاء   2022/07/26
-سادون إيشاك-ماليزيا..-إيغور سميرنوف-روسيا
يكتسب فن الكاريكاتير حضوره الجمالي والجماهيري الخاص عبر التاريخ من رهانات استثنائية تمكّن من خوضها بجسارة عبر صيغ متنوعة. فالكاريكاتير السياسي، مثلًا، حمل لوقت طويل مضى مسؤولية التعبير الحر عن المسكوت عنه من صوت الضمير الجمعي والاحتجاج الشعبي على القوى المتسلطة والأحوال المتردية. والكاريكاتير الاجتماعي انطلق غائرًا تحت الجلد، ليمارس الانتقاد الذاتي وكشف مواضع الخلل وإمكانية معالجتها عبر آليات التهكم والسخرية، إلى جانب القيام بدور الرقيب الذي لا تغفل عينه عن تقييم أداء المؤسسات العامة والخاصة والأفراد على السواء.

وفي تلك الجولات، وغيرها، التي خاضها الكاريكاتير، مدعومًا بقوة الصحافة في الأغلب، فإنه احتفظ لنفسه بمقوماته السحرية، كفن للبسمة والفكاهة في المقام الأول، وإن كان يسرد كوميديا سوداء في حالات كثيرة. وهو فن الطلقات المباشرة، الموجهة بعناية، فاللقطة المختزلة العميقة تغني عن ثرثرة القول، وقد لا تحتاج إلى أي كلمات مصاحبة. أما أسراره الفنية، فمن أبرزها أنه فن المفارقة، والتضخيم والتقزيم، واصطياد الدهشة من تفاصيل المواقف العابرة، وثنايا التناقضات. ولذلك فإنه دائمًا فن بسيط في حساسيته، قريب من البشر العاديين، يتحدث بألسنتهم في مواجهة النخب والمركزيات المتسيدة، ويمتلك القدرة على اجتذاب أعداد كبيرة من المتابعين، حتى بعدما انفصل الكاريكاتير عن الصحافة، وصار مستقلًّا بذاته في معارض الفنانين الفردية والجماعية، وفي إصداراتهم الورقية ككتب، والإلكترونية عبر مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا.


(مصطفى الشيخ-مصر)

وإلى جانب الكوميكس والميمز والغرافيتي وغيرها من الفنون المستحدثة، يسعى الكاريكاتير العريق إلى الاحتفاظ بإطلالته المتميزة، ومواصلة تأثيره الجمالي والاجتماعي، عبر محاولاته المتكررة لارتياد طرق جديدة تلائم المرحلة الحالية. وهنا، فإن أبجديات التمرّد التي صار ينتهجها، لا يستمدها من النبرة العالية، والشحن العاطفي، وإنما يستلهمها من فضاءات جمالية مجردة. بمعنى أن الثورة التي يضطلع بها الكاريكاتير حاليًا هي ثورة في الحقل الفني ذاته، أي ثورة فنية تهدف إلى تجاوز الثوابت والأطر المتعارف عليها، والتحلل من القواعد المدرسية.

في هذا الإطار، جاء الحدث الفني الجماعي المهم، وهو "الملتقى الدولي للكاريكاتير" في دورته السابعة بقصر الفنون في القاهرة (يوليو/تموز 2022)، وذلك بمشاركة قرابة 400 عمل لـ300 فنان مصري وعربي وأجنبي من 62 دولة، وبتنظيم قطاع الفنون التشكيلية بمصر، وقطاع العلاقات الثقافية الخارجية، والجمعية المصرية للكاريكاتير.

من الفنانين المصريين المشاركين: مصطفى الشيخ (رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير)، فوزي مرسي (قوميسير عام الملتقى)، عماد جمعة (مؤسس الملتقى العربي لرواد الكاريكاتير)، أدهم لطفي، حسن فاروق، إيمان خطاب، فاروق موسى. ومن الرسامين العرب والأجانب: الإماراتية آمنة الحمادي، فلاديمير كازنفسكي (أوكرانيا)، إيغور سميرنوف، سيميرينكو فلاديمير (روسيا)، أنجل راميرو (كولومبيا)، ماركو دي أنغلز، ماركو داجوستينو، مارلينا ناردي (إيطاليا)، عمر زيفالوس (بيرو)، سادون إيشاك (ماليزيا)، مارسين بوندارويكز (بولندا)، إنريك روميرو بيرنال (إسبانيا)، إيدي دارما، دارسونو (إندونيسيا)، وغيرهم.

هناك تحدّيان جوهريان، من الوجهة الفنية الخالصة، قطع "الملتقى الدولي للكاريكاتير" أشواطًا صوب اجتيازهما بنجاح وجرأة عبر محوريه الأساسيين في دورته الحالية، التي تأتي بعد توقف عامين بسبب جائحة كورونا.


(حسن حسني - مصر)

التحدي الأول أو التساؤل الأول، المقترن بالموضوع الأول للملتقى "الموسيقى.. كرسالة للمحبة والسلام وكلغة مشتركة تقرّب بين الشعوب وتسهم في بناء الإنسان"، هو: كيف يُستخدم البصري في التعبير عن السمعي، وكيف تصير النغمات الصوتية ألوانًا وأضواء وظلالًا مرئية في منظومة تراسُل الحواس؟

أما التحدي الثاني أو التساؤل الثاني، المقترن بالموضوع الثاني للملتقى "البورتريه الكاريكاتيري حول شخصية كوكب الشرق أم كلثوم"، فهو: كيف تتعدد مظاهر التعبير التصويري، خصوصًا من جانب الفنانين الأجانب، عن أم كلثوم، ليس كوجه بشري نمطي بطبيعة الحال، وإنما كرمز للكاريزما الاستثنائية، وللصوت المتفرد الذي التفت حوله الجماهير العربية؟

لقد تجسّد ملمح التفوق الأبرز في أعمال الملتقى، في تلك الصبغة التجريدية لدى الفنانين في فهم الموسيقى كلغة فلسفية ذات طبيعة خاصة، والتعاطي مع صوت أم كلثوم وشخصيتها كعلامة من علامات تلك اللغة المتطورة.

ولا تقف هذه اللغة المراوغة عند حدود التوصيل ووصف المعاني من خارجها، بل إنها تخترق الظواهر لتُحقق الحالة الشعورية، وتخلقها لدى المتلقي، كماهيّة وجوهر. هي ليست كالكلمات القاصرة في استعمالاتها، المحدودة بمعانيها القاموسية، لكنها نبض الذات الإنسانية والقيمة الكامنة في النفس البشرية. وهي لا تحتاج إلى أية ترجمة لتبلغ القلوب والأرواح، وتعكس الآمال والآلام والأحلام المشتركة لدى شعوب الكوكب، ممن لا يتفقون مع بعضهم البعض في الأبجديات الهجائية المنطوقة والمكتوبة.

هذه الطبيعة الموسيقية، التي تفوق الدلالات الصوتية الاعتيادية، أوجدت للفنانين مساحة خصبة لتشكيل النغمات بصريًّا، وفق المفاهيم التجريدية والترميزية ذاتها. فاللوحات بمثابة سيمفونيات مرئية، لا تتقيد بحدود الشكل الحرفي والملامح الصارمة المحددة. وبورتريهات أم كلثوم التي تجاوزت الـ130 عملًا، ليست إعادة نحت لوجهها وهيئتها الجسدية من زوايا ومناظير متابينة، وإنما هي قراءات متنوعة مفتوحة، لهذا الصوت المهيب الكاريزمي وإيقاعاته النفسية، بوصفه هو الآخر آلة من الآلات تتوسط الأوركسترا، وتقوده، وتهيمن عليه.

لقد انطلق الفنانون في رسمهم الموسيقى وأنغامها وأوتارها وآلاتها، من إبراز الغايات المتنوعة التي تُحدثها تلك الصوتيات في الإنسان، بمعنى أنهم صوّروا أثر الموسيقى على الذات والروح في المقام الأول. وبالمنطق نفسه، فإنهم طرحوا تصوراتهم عن وجوه أم كلثوم من خلال حصيلة تفاعلاتهم مع صوتها، والوضعية التي يكونون عليها وهم يسمعونها، حتى وإن لم يفهموا لغتها، إلى جانب ذلك العمق الكامن في حضورها الأيقوني الأخاذ، وهي تشدو فتحتلّ الحواسّ جميعها بذبذباتها وإشاراتها وجميع سماتها الشخصية، المرئية والخفية.


(جانب من الحضور)

من تلك الأعمال غير التقليدية، على سبيل المثال، لوحة الفنانة إيمان خطاب، التي سعت فيها إلى المقاربة بين تمثال "نهضة مصر" الشهير للنحات الرائد محمود مختار، الذي يرمز إلى مصر الحديثة في تطلعها إلى الحضارة والمسقبل، وشخصية أم كلثوم، الفلاحة المصرية، التي تسعى بدورها إلى النهوض والارتقاء بالموسيقى الشرقية والعربية. وقد جعلت الفنانة هذا اللقاء الافتراضي بين مصر وأم كلثوم فضائيًّا، وإلى جوارهما مجموعة من النجوم.

ويُلاحَظ في أعمال ملتقى الكاريكاتير القاهري أن إبداعات الفنانين الأجانب ربما جاءت في مجملها أكثر حرصًا على التحرر من القوالب السائدة، في رؤاها وأفكارها ومعالجاتها وسبل تمثيلها للموسيقى وبورتريهات كوكب الشرق. وقد بنى الفنانون قفزاتهم التخييلية على ما يحتمله الكاريكاتير من مبالغات ومفارقات وانحرافات مقبولة عن الضوابط القياسية والمعيارية.

من ذلك، مثلًا، تحوّل النوتات الموسيقية إلى فراشات ملونة لدى الأوكراني فلاديمير كازنفسكي، واخضرار الطبيعة بفعل إقامة حفل موسيقي لدى الإيطالي ماركو دي أنجلز، والتماهي بين الجسم الآدمي وآلة الأوكرديون لدى الروسي سيميرينكو فلاديمير، والصيغة الهندسية في رسم الهرم والقمر كمعادلين لحضور أم كلثوم الضمني لدى الكولومبي أنغل راميرو، والتوحّد بين أم كلثوم وملوك الفراعنة لدى الروسي إيغور سميرنوف، وتغريد العصفور فوق إصبع سيدة الغناء العربي لدى الفنان عمر زيفالوس من بيرو.