لماذا نشاهد هذه الفيديوهات؟

روجيه عوطة
الإثنين   2022/07/25
في البدء، كان اللامعنى"، يقول نيتشه
هناك فيديوهات تحظى بعدد مشاهدات ومتابعات هائلة في "إنستغرام"، وهذا، على الرغم من إمكانية وصف محتواها بكونه، وللوهلة الاولى، غير مهم البتة، أو بالأحرى لا يمكن التخيل انه ينطوي على أهمية ما. على سبيل المثال لا الحصر: فيديوهات فقء الحبوب الجلدية، او فيديوهات آلة التكسير، التي تلتهم كل ما يوضع فيها، أو فيديوهات السوائل الفوارة... كل هذه الفيديوهات، وسواها بالطبع، تحمل الى التساؤل عما يجذب فيها. فما هو مصدر جذبها لملايين المشاهدين؟ 

بالتأكيد، لا يمكن الإجابة هنا بطريقة عامة، فلا بد من فيديوهات بعينها من أجل مقاربة الجذاب فيها، لذلك، استند هنا الى تلك التي يبثها حساب المدعو ديفيد بك. هذه الفيديوهات، التي لا قيمة فعلية لها، يمكن تلخيص محتواها بالتالي: مستخدماً سكينه، يقدم بك نفسه على فقع بالون-أو نُفاخة بالعربية- يحوي بالوناً آخر، وثانيه هذا يحوي بالوناً ثالثاً، وذلك، الى ان يصل بك الى إخراج السائل، الملون او لا، من البالون الأخير. 

أول ما يمكن قوله حول هذه الفيديوهات انها تجذب لأنها تشتمل على طقس من اللعب، بحيث أن صانعها غالباً ما يبدو أنه يحذّر مشاهدي فيديوهاته، وبطريقة ساخرة، من كون ما سيتفرجون عليه فيها بمثابة انفجار خطير. لكن الطقس اللعبي لهذه الفيديوهات ليس متيناً، لا سيما ان تحذير صانعها لا يأخذ مشاهديها سوى على محمل التصنع، إذ إنهم يدركون، وبفعل متابعتهم لها، أن الأنفجار ذاك لن يحصل. بالتالي، طقس اللعب المبالغ فيه لا يضيف جاذبية على الفيديوهات، ما يدفع الى الاستفهام عما تضيفه. 

قد يقع أمر الانجذاب إليها في جانب معين منها، وهو جانبها الغرضي تحديداً، أي المتعلق بالبالون نفسه، الذي يظهر، بداية، على احتوائه لغيره. بعبارة أخرى، قد يكون جذب الفيديوهات لمشاهديها يتعلق بغرضها، يعني البالون الذي يصعب تخيل أنه قد يحوي آخر، وهذا، مع كونه منفوخاً. إلا أن الجانب الغرضي الفيديوهات لا يمكن فصل عن جوانبها الأخرى، بل إن هذا الجانب ليس سوى نتيجة عملية إذا صح التعبير، يحققها منفذها. من أجل التوقف، وبطريقة مباشرة، على ما في هذه العملية "البالونية"، يمكن القول إنها تنطوي على ثلاثة أفعال أساسية، سرعان ما تفضي إلى مواقف بعينها، هي، وعلى وجه الدقة، ما يجذب في فيديوهاتها، كما في فيديوهات أخرى من قبيلها. تلك الأفعال الثلاثة هي: النقر، الكشف، التسييل. حين ينقر صانع الفيديوهات بوالينه بالسكين هو يشقها، وعندما يفعل ذلك، ينتقل من المقفل الى المفتوح. لكن الشق ذاك يؤدي الى الكشف عن كونه مجرد سبيل إلى بالون جديد، وبالتالي، يشرع في النقر من جديد. وهذا، الى أن يسيل سائل البالون الاخير بما هو صميمها. ما تفضي إليه هذه الافعال هي المواقف الآتية: الإنتقال من المقفل الى المفتوح، التكرار، الاخراج. 

قد لا يعدّ دقيقاً الاعتقاد، وبشكل يقيني، بأن جاذبية تلك الفيديوهات تتعلق بهذه المواقف التي يمكن استنتاجها منها. الا أنه، وبعيداً من إشكالية الدقة، فما يهم هنا هو أن القصد من الاشارة إلى المواقف إياها هو كون فيديوهاتها تجذب بالانطلاق مما يقع في محتواها من دون أن يكون جزءاً أساسياً منه. بطريقة أخرى، هي تجذب بما يحدث خلالها كتفاصيل، كنفايات حتى، لا يطول وقتها سوى للحظات قليلة جداً. 

وهذا ما يعيد تعريف التفصيل، ليس على أساس موقعه الهامشي، إنما بالارتكاز على كونه يسجل، كموقف، كل أثر حامله، وبذلك، يصنع جاذبيته. وهذه الجاذبية تصير، في هذه الجهة، مجموعاً من المواقف التي تشدّ العيون إليها، لأنها تتطابق مع منازع أصحابها، لأنها تعكسها: تعكس الإنتقال من المفتوح الى المقفل، او العكس، التكرار، الإخراج. وذلك، في قالب يوافقها، أي قالب لا يمت للمعنى بصلة. "في البدء، كان اللامعنى"، يقول نيتشه، مضيفاً "إنه الرب"، او الخوارزميات البصرية لـ"إنستغرام"!