إيلي داغر لـ"المدن":لم نخرج بعد من صدمة انفجار المرفأ

محمد صبحي
الإثنين   2022/06/27
المخرج إيلي داغر... حين بدأت الثورة، كان هناك أمل كبير
"البحر أمامكم"(*)، أول الأفلام الروائية الطويلة لإيلي داغر (1985)، فيلم آسر وحزين يروي حكاية شابة لبنانية (منال عيسى) تعود إلى بيروت بعد فشل تجربة هجرتها في باريس. العودة إلى لبنان تتبعها أسئلة الأهل عن الأسباب، وبحث من جانبها عن أرض جديدة تغرس فيها قدميها. لا إجابات سهلة يقدمها الفيلم، بقدر ما يضع المتفرج أمام جملة من الأسئلة والتساؤلات حول ما صارت إليه بيروت وأحوال اللبنانيين اليوم. هذا فيلم يعاين الأضرار، لا يحكم ولا يعظ، ويقول، باشتغال سينمائي بليغ، أن لبنان ليس على ما يرام.
"المدن" التقت المخرج للحديث عن فيلمه، والسينما، وبيروت بالطبع.


* لنبدأ بالسؤال التقليدي: كيف بدأ الفيلم؟

- بدأت كتابة السيناريو في أيلول/سبتمبر 2015 وانتهيت من مسودته الأولى في نيسان/ أبريل 2016. تزامنت الكتابة مع فترة شهد فيها لبنان احتجاجات شعبية وأزمة سياسية وأزمة النفايات وموجة هجرة واسعة، وأنا نفسي هاجرت من لبنان سابقاً وكثر من عائلتي مرّوا بالتجربة، وعادوا بخسائر أكبر مما ربحوا. لذا وجدت من المهم تناول موضوع الهجرة من منظور العائدين، وليس من منظور الذين هاجروا بلا رجعة ونجحوا في حياتهم الجديدة. لا أحد يتكلّم كثيراً عن هذا الجانب من تجربة الهجرة في لبنان، ففي العادة يقترن الحديث عن الهجرة بخلق عالم أفضل وحياة أحلى، لكن هذا ليس المسار الذي تأخذه كل التجارب. من هنا بدأت الكتابة.

* ست سنوات فصلت بين تتويجك بالسعفة الذهبية لمهرجان "كان"، وإنجاز فيلمك الروائي الطويل الأول. حدّثنا عن رحلة تمويل إنتاج الفيلم.

- عادة ما يٌقال إن فترة تمتد من 4 إلى 7 سنوات هي مسافة زمنية طبيعية بين كل فيلم وآخر (يبتسم). المشكلة الأساسية أنه لا دعم للسينما في لبنان، وبالتالي تضطر للتوجّه إلى منتجين أوروبيين. لكن المشكلة ظهرت في ملاحظاتهم الاستشراقية حول افتقاد الفيلم لعرض المشكلات المجتمعية والصورة النمطية المعتادة كالمرأة التي ترنو إلى التحرّر من مجتمع محافظ، الحرب الأهلية أوالإرهاب، وأشياء من هذا القبيل. وأنا لم أكن مستعداً أو مهتماً بإنجاز فيلمي لهم، بل بعمل فيلم "يشبهنا"، لأن هذا فيلم لبناني وكل ما فيه لبناني، وجمهوره الأساسي لبناني أيضاً.

بل إن الأمر وصل إلى اقتراحات بإشراك ممثلة تونسية للقيام بدور البطولة. والواقع أنه بخلاف أن الممثلة التونسية لن تكون لهجتها اللبنانية سليمة، فبالنسبة إلي وأنا أنجز فيلماً مثل هذا بموضوع يهمّني كثيراً، من المهم أيضاً مَن الممثلة التي ستجسّد هذه الشخصية وعلاقتها ببيروت وببلدها. لا يستوي، خصوصاً مع فيلم كهذا، أن تأتي بممثلة أجنبية، لأنك تريد أن تخرج منها بشيء حقيقي. حين التقيت بمنال عيسى في 2016، اكتشفت كيف تشبه قصّتها الشخصية حكاية جنى وحكايتي، كيف أننا على الموجة نفسها سياسياً وإنسانياً. هذا مهمّ لي. حين عملت معها أردتها أن تعطي الفيلم تلك الطاقة، ومن الجيد بشكل عام أن تتعاون مع أشخاص يفهمونك وتفهمهم.

التمويل كان صعباً وطويلاً، كما أننا بدأنا التصوير أواخر 2019، بالتزامن مع بداية الثورة في بيروت، وفي الأسبوعين الأخيرين من التصوير جاءت الجائحة، وبعد ثلاثة أيام فقط من انتهائنا حصل الإغلاق الصحي الأول في لبنان.

* صعوبات كثيرة واجهتها أثناء التصوير ثم أثناء المونتاج، الذي ترافق مع كارثة انفجار المرفأ. كيف أثّر فيك ذلك؟

- حين بدأت الثورة، كان هناك أمل كبير – مثلما صار في مصر – صدّقنا أن البلد سيتغيّر وستسير الأمور للأفضل، وفكّرت في بالي كيف سيبدو فيلمي حين سيتغيّر الواقع اللبناني كلياً. لكنهم بدأوا قمع المظاهرات وأتوا برئيس حكومة جديدة لا لزوم لها، ورأينا أن لا شيء كبيراً سيتغيّر، وأن الوضع يسير من سيء إلى أسوأ. ومن هنا فكّرت من جديد بأن ما يحكيه هذا الفيلم ما زال مهماً، حتى مع استمرار الموجة الشعبية الغاضبة.

أثناء التصوير أيضاً واجهنا صعوبات بسبب الأوضاع غير المستقرة. لكن الشيء الأصعب كان تفجير المرفأ، فأنا أسكن على بعد كيلومتر واحد من المرفأ وكنت أعمل على مونتاج الفيلم في شقتي، بالتعاون عن بُعد مع زميلة فرنسية، وتوقّف العمل لشهرين، أولاً لم أستطع الرجوع إلى بيتي بسبب التكسير والتلفيات. بعد ذلك شعرت بأنني جاهز لإكمال المونتاج. هذا كلّه أخّر إتمام مرحلة ما بعد الإنتاج للفيلم، التي استغرقت سنة كاملة، بما أننا انتهينا من التصوير في شباط/فبراير 2020 ولم يكتمل الفيلم إلا في شباط 2021.

* تملك خلفية أكاديمية في مجال بعيد من السينما، وقدّمت أطروحة في مدرسة غولدسميث للفنون بلندن، تركّز على العلاقة بين التاريخ والذاكرة والأرشيف في بناء الهوية، لكنك في الوقت ذاته صانع أفلام متنوع: التحريك في "موج 98"، ثم روائي طويل، وأخيراً فيلم تسجيلي عن تداعيات انفجار مرفأ بيروت.. ما الذي تمثّله لك السينما، وما الذي ترنو لتحقيقه بأعمالك؟

- حالياً لا أجد أن كلّ ما فعلته ودرسته ساهم في وصولي إلى مكاني الحالي. أنا شخص يعمل على ما يريده بعفوية، من دون خطة دقيقة. مثلاً، حين قدّمت للجامعة في لندن، كانت رغبتي الأولى هي دراسة الإخراج، لكن عائلتي حذّرتني من الفكرة ("هل تريد إخراج الفيديو كليب والإعلانات؟!")، ذهبت إلى موقع تصوير لإحدى أغنيات نوال الزغبي من إخراج نادين  لبكي، لأخرج من هناك نافضاً الفكرة من تفكيري. لأنه حتى لو كان العمل في هذا المجال مشوّقاً، يظلّ بينه وبين السينما مسافة كبيرة. درست بعد ذلك الفنون الجميلة في بيروت، لأرسم حتى لا أكتفي بعمل الإعلانات. درست الرسم، ثم التحريك، ثم سافرت إلى لندن للحصول على درجة الماجستير، ولم يكن الأمر كله أكاديمياً بحتاً، بل ثمة مساحة لإنجاز عمل تطبيقي.

في العام 2009 ومن أجل إنجاز أطروحتى الأولى التي قدّمتها للقبول بالجامعة، سكنت في برلين لثلاثة اشهر واستغربت هناك من الطريقة التي يحدّد بها أفراد الجاليات العربية واللبنانية هويّتهم كعرب أو كلبنانيين، بشكل يختلف كثيراً عن أقرانهم العائشين في بلدانهم الأصلية. لاحظت هذا أيضاً مع أبناء عمومتي الذين هاجروا من لبنان منذ التسعينيات إلى كندا، ثم عادوا متغيّرين وحاملي هويات مختلفة. في بعض الحالات تجد ارتباطاً وثيقاً بأشياء من الماضي (زمن هجرتهم) لم تعد موجودة حالياً أو طاولتها تغييرات حاسمة. تساءلت عن كيفية تكوين الهوية أو بنائها، وكيف أنها ليست شيئاً ثابتاً، بل كائناً حياً يتحوّر ويتغيّر، لكني في الوقت ذاته رأيت كيف يعلق هؤلاء المهاجرين في هويات مُعلَّبة، إذا جاز التعبير. كتبت أطروحة حول هذا الموضوع، ثم حين التحقت بالجامعة اشتغلت عليها، وكان في مركزها فندق الهوليداي إن و"معركة الأوتيلات".



نحن في لبنان لا نملك كتباً تاريخية تروي الحرب الأهلية أو حتى الاستقلال، إذ تصل إلى العام 1943 ثم بعد ذلك لا شيء. كل مدرسة، حسب المنطقة، تختار قصتها عن تاريخ لبنان المعاصر. وهذه مشكلة لبنانية. كتبت أطروحتي حول المبنى، باعتباره الشيء الوحيد الأرشيفي الباقي من ذاكرة الحرب أو ذاكرة الناس الشفوية، المتغيّرة بطبيعتها. وحين اشتغلت على الجانب التطبيقي من المشروع، أنجزت تجهيزاً فنياً يدمج الصوت والصورة، قابلت خلاله مقاتلين شاركوا بمعارك الأوتيلات، وركّبت من المرويات التوثيقية قصة روائية، بغرض مقاربة الذاكرة وبيان اختلافها عن التاريخ، ففي حين يُفترض بالأخير ارتباطه بالتوثيق والتدقيق، تظلّ الذاكرة أمراً قابلاً للتغيير.

هذا ما أعمل عليه وما يشغلني التفاعل معه مما يحدث حولي وفي محيطي. والسينما، روائية كانت أم تسجيلية، وسيط مثالي لتوصيل إحساس معيّن، بمزيجها من الصوت والصورة والوقت، أكثر من الرسم أو غيره من المجالات الإبداعية التي مررت بها. أيضاً، أعتقد أن كل المخرجين الذين أعجبت بأعمالهم في صغري طمحوا لفعل شيء مختلف في السينما، حتى إن على مستوٍ صغير. مثلاً، أتذكر مشاهدتي لأول فيلم من هذه النوعية حين كان عمري 8 سنوات: "ليلة على الأرض" (1991، جيم جارموش). انبهرت حينها بتخلّيه عن الحبكة/الحكاية التقليدية التي اعتدتها في الأفلام الروائية، وأعتقد أنه منذ ذلك الحين انجذبت لتلك الأفلام التي تحاول تقديم شيء مختلف وجديد. لذا بالنسبة إلي السينما مساحة تحدٍ لأمور مهمة، سياسياً واجتماعياً وغير ذلك.

* يبدو "البحر أمامكم" استكمالاً لفيلمك القصير السابق، على صعيد الموضوعات، كما لديك بعض التشابهات مع بطلة فيلمك، جنى، فلماذا اخترت أن تكون الشخصية الرئيسية أنثى وليس رجلاً؟

- هناك أكثر من سبب. أحدها أن فكرة الشاب الذي يسافر للخارج أو يتجه لدراسة مجالات معيّنة  - تحت ضغط أهله - بهدف الحصول على المال؛ هي فكرة مستهلكة ونوقشت كثيراً. في لبنان، لا توقعات كبيرة حين يتعلّق الأمر بمستقبل البنات أو النساء. أعرف هذا، حتى في عائلتي، ورأيت كيف يخفّض الأهل من سقف طموحهم في ما يخصّ مستقبل بناتهم بعد إنهاء الدراسة. ووجدت هذا أقسى من التوقعات المنوط بالشباب تحقيقها. لذا عندما تسافر شابة إلى الخارج بهدف تكوين ذاتها وبناء حياة وبرهنة قدرتها على فعل ذلك لنفسها، ثم تفشل في مسعاها لتعود إلى بيئتها الأولى، حيث لا توقعات ولا آمال كبيرة بخصوصها من الأساس؛ يغدو هذا مؤذياً لها، خاصة بينها وبين نفسها. أعتقد أن الحديث نادر في هذا الموضوع، كأنه من التابوهات، وهذا، بالمناسبة، ليس مسألة لبنانية فقط، وإنما تراها في بلدان أخرى.

* كمُشاهد، فقد تعاملت مع كل مشاهد البطلة مع حبيبها السابق آدم كتسلسل حلمي متخيّل، مستقوياً باستناد الفيلم على مقاربة حالة "الليمبو" والعوالم الموازية. هل هذا صحيح؟

- نعم هذا صحيح. الفيلم بأكمله يدور في عوالم "الليمبو" تلك، لكنه ينزل شيئاً فشيئاً ليصير هناك بهذه الصورة الواضحة في تلك المَشاهد. الفيلم بأكمله مكتوب من منظور جنى، وبالتالي تصبح شخصية آدم شبحاً من الماضي لكنه موجود في "حاضرها"، يجسّد ندمها على الماضي وما تركته خلفها، ومرآة لحياتها بمعنى أو بآخر.

* تمثّل جنى جيلاً لبنانياً تورّط في وجوده، حتى حين محاولته تغيير أوضاعه. تعود جنى إلى لبنان لأنها لم تجد "بيتاً" لها في فرنسا، لكنها أيضاً لا تجد مدينتها القديمة، ولا نفسها.

- هناك أيضاً مسألة مهمة في الفيلم، وهي علاقة الأهل بالموضوع وكيف يختلفون معها. في موضع ما من الفيلم نطالع حالة الإنكار التي يعيشها المجتمع اللبناني منذ فترة طويلة، والتي رفضت جنى التماهي معها، لكن من ناحية أخرى، يمكن رؤية كامل الخيط الدرامي لعلاقتها بآدم بعد عودتها باعتباره هو أيضاً حالة إنكار، بهدف الهروب من الواقع. فهي هربت من بيروت إلى باريس، ثم من باريس إلى بيروت، ثم هربت من بيت أهلها إلى آدم؛ المكان الوحيد حيث تأخذ بزمام الأمور بيدها. في الأخير، وبعد تخلّصها من آدم، تمضي قدماً بلا وجهة محددة، لأن الفيلم لا يقدّم إجابات، لكنها على الأقل استطاعت الإمساك بحياتها بيدها وتمضي إلى الأمام. يبقى غير واضح المعالم، لكن ما يهمّ أنها وجدت القوة للمضي قدماً بحياتها.

أعتقد أنه من المهم لجني ولجيلي وجيل عائلتي تقبُّل أن "الأمور ليست على ما يرام"، لأن هناك حالة إنكار غير طبيعية متفشية في المجتمع اللبناني، بالرغم من كل الوضع الكارثي اللبناني حالياً. عند نقطة ما تفهم رغبتك في عيش هذه الحالة، لإبعاد الواقع الصعب عن تفكيرك، لكن في الوقت نفسه هذا الأمر يجعلك منفصلاً كلّية عن الواقع. لذا لم أكن معنياً بتقديم حلّ أو إجابة لحالة الضياع تلك، لأن قصص الحياة ليست بهذه السهولة، كما أنه في ظلّ الوضع اللبناني الحالي إذا أعطيت أملاً كبيراً أو حلّاً سحرياً لمشكلة مثل تلك، فإنك ببساطة ستكذب على الناس. لم نرد الكذب على أحد، وإنما القول بأن الأمور ليست على ما يرام، وتقبُّل هذه الحقيقة. لا بأس أن لا تكون على ما يرام، ربما هذا هو الأمل الوحيد في الفيلم.

* الاغتراب الاجتماعي حاضر في "موج" و"البحر أمامكم" وحتى في "إعلان حرب". هل أضحى هذا قَدَر اللبنانيين؟

- "قدر" كلمة صعبة، لكن هذا الواقع ليس جديداً. أعتقد من المهم أن يعرف المرء مصدر هذا الأمر، فبعد توقف الحرب الأهلية – لا انتهائها – في 1990، سادت حالة من الدعوة لكنس كل شيء تحت السجادة والشروع في إعادة بناء البلد، بلا تفكير في ما حدث أو الحديث في الماضي، لكن للأسف السياسيين اللبنانيين هم أنفسهم مقاتلو الحرب الأهلية، قادة المليشيات ورؤساء الأحزاب أنفسهم صاروا سياسيين، وأنهوا حربهم بطريقة باردة، مع تحاصص وأنصبة لكل شيء بالدولة، وعفو عام، ونزع قوة الاقتصاد وتحويله لاقتصاد ريعي، وقتل الصناعة. فرّغوا الدولة من كل مكوناتها. اللبنانيون شهدوا هذه الأمور، وفي الوقت ذاته تقبّلوها لأنهم لم يمتلكوا رؤية لحلول بديلة، وتعايشوا معها. في السنوات الثلاث الأخيرة، مع الأزمة الاقتصادية وكارثة الانفجار، رأينا ثمار هذه السياسات والأسماء نفسها خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة.

في الوقت نفسه، حتى مع الانتخابات النيابية الأخيرة وما أفرزته، يبقى الوضع صعباً في لبنان، لدرجة لا يمكنك معه تخيُّل أن الدولة ستُبنى بعد خمس سنوات من الآن، أو تتحسّن أحوال البلد، أو يتوقف اللبنانيون عن الهجرة. باختصار، ليس هناك ما يدعو لنظرة أفضل للبلد، أو التطلّع لتحسُّن أحوال مجتمعه. لذا، يغدو أمام غالبية اللبنانيين حلّ واحد يتمثّل في الإنكار والتركيز الحصري على الذات. أو أن تصير ناشطاً سياسياً، لكنك في هذه الحالة ستضطر لعيش حياتك مع قدر غير طبيعي من الاكتئاب والإحباط، للمحاربة كل يوم من دون الوصول لشيء. رأيي أنه يتعيّن عليك إيجاد طريقة للعيش مع كلا الحلّين.



* بالنسبة إليّ، كشخص غير لبناني، فالكارثة حاضرة دائماً في المشهد اللبناني، حتى من دون تعيّنها كحدث جلل. أنت كلبناني يعيش في لبنان، كيف تختبر هذا التجاور بين محاولة التمسك بالأمل والخوف الدائم من الكارثة القادمة، خصوصاً وأنك ناشط سياسياً بشكل أو بآخر؟

- وضعٌ صعب. خصوصاً أن سبباً أساسياً لإنجازي هذا الفيلم كان هذا الموضوع تحديداً. اختبرت أحاسيسي تجاهه وقت الكتابة وأثناء العمل على إتمامه، ومحاولة فهم كيف يمكن للمرء العيش بين اليأس والأمل في الوقت ذاته. لكن أعتقد أن الكلمات وحدها لا تعبّر كفاية. مثلاً، كلمة "أمل" كبيرة جداً، كأن قائلها واحد يملك ثقة في تغيُّر الوضع، لكني لا أملك ذلك "الأمل" أو الثقة في تحسُّن الوضع، لكن من مسؤوليتي أيضاً عمل كل ما بوسعي للاتجاه صوب هذا الهدف. لا أيأس، لكن الاستمرار في فعل هذا "السعي بلا أمل" أمرٌ صعب وشاق.

أقول ذلك خاصة أني في فيلمي عملت على هذا الشيء قبل ما حصل في السنتين أو الثلاث الأخيرة. يخبرني البعض أن الفيلم نبوئي، وأردّ عليهم بأننا عشنا طيلة حياتنا هذا الخوف من الكارثة المقبلة، فلو لم يحدث انفجار المرفأ لجاءت الكارثة من محلٍ آخر، وممكن ألا تكون هذه آخر كارثة تصيبنا، للأسف. فليس الأمر تنبؤاً، بل إدراك المرء ما يعيشه وما يحدث حوله ورؤية الأشياء كما هي على حقيقتها. انتظرنا تلك الكارثة من قبل، فمنذ العام 2010 نشعر بقربها منذ بدأت الحرب السورية.

بالعودة إلى سؤالك حول تجربة التعايش، أجدها الآن أصعب، لأننا لم نخرج بعد من "تروما" الانفجار. عن نفسي، جُرحت بسببه، وقضيت ليلي بالمستشفيات، ودُمّر بيتي، وكنت أعمل على المونتاج حينها، وعندما عُرض الفيلم في "كان" قبل سنة، شاهدته للمرة الأولى بحضور الجمهور، وكان عرضاً جيداً وتأثّر المتفرجون بما شاهدوه وقرأت مقالات عنه، مدحت الفيلم لكنها تتحدث عن موت بيروت ونهايات أشياء. كلما سألني أحد عن العرض، وددت إجابته بأنه كان جيداً (فمن المفترض أن أفتخر بعملي)، لكنني لم أستطع قولها إلا وجاء في بالي كل مرة أن أشرع في البكاء بعدها.

حين النظر إلى تلك الأوقات، تجد أن السينما تخبرك شيئا ثقيل الوقع وصعباً على النفس، في مرحلة كان كل شيء لا يزال طازجاً. لم تمرّ سنة على الانفجار حين ُعرض الفيلم في "كان"، حيث جاء قبل أسبوعين تقريباً من الذكرى الأولى للانفجار. من هنا تأتي الصعوبة، من كوننا ما زلنا نحيا تداعيات صدمة الانفجار، ولم نخرج منها. إذا مشيت في بيروت اليوم، ستجد نصفها ما زال مدَّمراً، لا كهرباء. اليوم، تحديداً، يبدو هذا التجاور أصعب منه قبل خمس سنوات.

* قبل سنوات، في مقابلة مع رنا عيد (مصممة الصوت للفيلم) حول فيلمها "بانوبتيك"، أخبرتني أنها، بالرغم من كل شيء، تورّطت في حبّ بيروت ولا يمكنها الابتعاد عنها. ماذا عنك؟

- تعلُّقي بالمدينة متصل بارتباطي بناسها الأقرب لي، من أهل واصدقاء ومعارف، أكثر من بيروت كمدينة في حدّ ذاتها. للأسف كثر من أصدقائي هاجروا في السنتين الأخيرتين، وبالتالي يصيّر التعلقّ بالمدينة أقل. لكني في الوقت ذاته لا أملك مكاناً آخر أريد العيش فيه. لا أفكر في مغادرة البلد، لأني جرّبت هذا سابقاً. في 2010 عشت في بلجيكا حوالى خمس سنوات، ثم عدت إلى لبنان، ولا أريد الإقامة في بلد آخر إلا إذا امتلكت مشروعاً معيناً أعمل عليه، خاصة في أوروبا (يضحك). مثلاً، في تجربتي مع عروض الفيلم أوروبياً، قابلت أسئلة وملاحظات استشراقية من مشاهدين غربيين. بالطبع لا تتجاوز تلك النوعية من الخطابات والرؤى نسبة ضئيلة ونادرة مما تسمعه هناك، لكنها كفيلة بتكدير صفو يومك حتى نهايته.

* بيروت - أو وسط بيروت للدقة - في الفيلم ميلانكولية، أو بالأحرى كئيبة. هذه أول مرة أرى بيروت هكذا سينمائياً. لماذا هذا الجوّ الرثائي؟

- هناك أكثر من سبب. فعلى عكس "موج"، أردت بهذا الفيلم التركيز أكثر على الشخصية مع المدينة بحدّ ذاتها، وبالتالي تغدو المدينة مرآة لجنى والعكس صحيح. وأعتقد لأن الموضوع بحد ذاته "كئيب" أو سوداوي أو "ما بعد ميلانكولي"، إذا أردت، لم يكن ممكناً عمله سوى بهذه الطريقة. صوّرنا الفيلم في الشتاء، بعيداً من الموسم الصيفي والسياحة والأجواء المرافقة. في الشتاء لا يبقى في بيروت إلا البيارتة، وحينها يمكنك رؤية المدينة على حقيقتها وعلاقة سكّانها بها. أيضاً عندما يكون الجوّ ممطراً، وترى تفاصيل البنايات و"الباطون"، من دون أن تغمرك الشمس، كأنك، فجأة، ترى بيروت لأول مرة، بكل جمالها وبشاعتها.

في الوقت نفسه، أردت تقديم فيلم يحاكينا ويشبهنا. ليس كل البيارتة يعيشون في وسط المدينة القديم الجميل الذي نراه في الأفلام اللبنانية، ببيوته العتيقة والنوستالجيا المرافقة، وإنما أكثريتهم يعيشون في الضواحي في بنايات طويلة، منفصلين عن هذه الحياة الحيّة القديمة. لذا هناك مشكلة بين الخاص والمجتمعي. سكّان هذه الشقق، يغلقون أبوابها ثم ينزلون بسياراتهم، ومنها إلى المطعم ثم يعودون إلى البيت. لا تفاعل. كان مهماً تظهير تلك الحياة البيروتية، الأبعد من النوستالجيا والخيال القديم الشائع في الأفلام اللبنانية.

* واحد من أدوم مشاهد الفيلم بقاء في الذاكرة، حين تقف جنى أمام حمام سباحة مهجور وفي خلفية الكادر الغائم تظهر بنايات بيروت كشهود جنازة صامتة. بشكل عام يحمل الفيلم لغة بصرية مميزة، خصوصاً في المشاهد الليلية، تغذّي الجوّ العام المراد خلقه. كيف عملت على تحقيق ذلك؟

- سؤال صعب. ربما لأني ألاحق إحساساً أكثر من أي شيء آخر، حتى في الكتابة يكون في بالي خلق إحساس معيّن، ثم أثناء التصوير أعمل على ذلك بالتحضير المفصّل للقطات والكادرات، ثم أخيراً في المونتاج. أحياناً يكون مهماً أن يقوم المخرج بمونتاج فيلمه، بالرغم من أن المنتجين سيخبرونك في البداية أنهم لا يحبّذون الفكرة، لاعتبارات تعلّق المخرج بلقطاته ومشاهدته المصورة، أما أنا فعلى العكس حذفت كثيراً منها. في المشهد المعني، أعرف الاحساس الذي أريد إيصاله أو الوصول له، لكن زميلتي المونتيرة الفرنسية لا تملك العلاقة نفسها مع الصور، وبالتالي ما تحسّه غير ما أحسّه. أعتقد أن تحقيق هذا الجوّ أو المزاج جاء نتيجة عمل المونتاج وبمساعدة الموسيقى المصاحبة أيضاً، أي بتركيب الصور مع بعضها البعض لإيصال إحساس معيّن.

مثلاً في ذلك المشهد حين يتجوّل آدم وجنى بالسيارة في وسط بيروت، عادة سيُنجز الأمر بحديث تقليدي في السيارة وبعض اللقطات للبنايات، لكني لم أرد ذلك، بل إيصال إحساس معيّن فيه ثقل وغربة، يشبه الشعور الذي تحدثه رؤية تلك المنطقة من بيروت.

* أثناء مشاهدتي الأولى للفيلم لم أستطع إبعاد شبح مايكل أنجلو أنتونيوني وأفلامه مع مونيكا فيتّي. هل يمكنك إخبارنا بمؤثرات أساسية شكّلت خبرتك السينمائية؟

- لم أدرس السينما، وبالتالي لم تتسن لي فرصة مشاهدة كل الأفلام الأساسية للمخرجين البارزين. شاهدت أفلاماً لتاركوفسكي وكوبريك وبيرغمان. أول فيلم شاهدته لأنتونيوني كان "المغامرة" (1966)، وكان في ورشة عمل بعد إنجاز سيناريو الفيلم، لأن زميلاً في الورشة أخبرني بأن فيلمي لن ينضبط إلا إذا فهمنا ما صار مع جنى في باريس، وأعطى مثالاً بفيلم أنتونيوني، من ناحية كونه يبدأ من قصة امرأة تختفي في ظروف غامضة ثم يذهب الفيلم في اتجاه مختلف. هذه هي صلتي بسينما أنتونيوني حينها. مؤخراً قرأت مقالاً فرنسياً عن فيلمي أشار فيه الكاتب إلى فيلم "الصحراء الحمراء" لأنتونيوني، وأنوي مشاهدته قريباً.

بالعودة إلى سؤالك، أعتقد أن أكثر ثلاثة سينمائيين أثّروا فيّ - ولك أن تستغرب – هم ديفيد لينش وجيم جارموش ومايكل هانيكه. لا أعرف كيف أثّروا في بشكل مباشر وواضح، لكنهم أكثر الأسماء التي حرصت على مشاهدة أفلامها والتفكير فيها واختياراتها. الثلاثة مختلفون كثيراً. أحبّ عند لينش اشتغاله على الإحساس، بشكل يجعل مشاهدة أفلامه تجربة بذاتها، بعيداً مما تحكيه أو تتناوله. هانيكه أراه طبيباً جرّاحاً، بالنظر لدقة لقطاته وتكويناتها المركّبة. أما جارموش فهو مخرج يخلق إحساساً شاعرياً مع الوقت.

* الهجرة، تأمين المستقبل، التحقق المهني، الإنجاز الشخصي، ثقل الماضي اللبناني، الجنترة (gentrification)، قلق الشباب واغترابه، البحث عن الحبّ، والهوية.. كلها موضوعات تنصهر داخل حكاية الفيلم. ألم تخشَ من إثقال فيلمك بموضوعات كثيرة كما يفعل السينمائيون عادة في بواكيرهم الإخراجية؟

- لا لم أفكّر في هذا الأمر. بالنسبة إلي تصبّ كل هذه الموضوعات في تخليق إحساس وجودي بالغربة، في العالم أو في الحياة عموماً، وكان يهمّني رواية قصة الهجرة من منطلق سفر البطلة الهروبي من لبنان ثم عودتها إليه، والبحث عن أسباب القرار وتداعياته، ثم جاءت بقية الموضوعات الأخرى لأنني متأثر بها أيضاً، وأحسّ أن آخرين يتأثرون مثلي. ما عشناه في بيروت منذ التسعيينات وأوائل الألفية من "جنترة" وتغيير لمعالم المدينة، كان كبيراً وأثّر على حياتنا اليوم. كل هذه المشكلات، الصغيرة والكبيرة، تتراكم وتفضي إلى موجة هجرة جماعية. في السياق ذاته، حاولت ألا أنجرّ وراء سردية طائفية، لأن المشكلات تصيب الجميع. حاولت التركيز على المسائل الأساسية، التي تطال الجميع، ثم بعد هذا تأتي التفاصيل الخاصة بالشخصيات.

* بعد عام كامل تقريباً من عرضه في "كان" يُعرض فيلمك الآن في بيروت والقاهرة. ما الأسباب التي تعوق إتاحة الأفلام الفنية العربية في الصالات العربية؟

- أعتقد أن هناك أزمة قلّة ثقة في الأفلام العربية بشكل عام، من قبل الموزّعين والمشاهدين، للأسف. إذا تحدّثت عن الحالة اللبنانية، فحقيقة أن أكثرية الأفلام اللبنانية هي تجارب شخصية لصانعيها، بما أننا لا نملك صناعة سينما، يعني أنك أمام طاولة عروض متنوعة جداً، فإذا شاهد الجمهور اللبناني بعض أفلام لم يستسغها أو لم تكن جيدة، يخرج بخلاصة مفادها أن كل السينما اللبنانية على تلك الشاكلة التي لا يريدها. الجمهور اللبناني والعربي يشاهد الأفلام "الشعبية" العربية الكبيرة، لكن حين يتعلّق الأمر بفيلمٍ مستقل أو فيلم مؤلف، تظهر مشكلة عدم الثقة، ربما بسبب غياب ثقافة مشاهدة هذه النوعية من الأفلام، بالرغم من إيماني بوجود جمهور عربي لهذه الأفلام، إذا أتيحت لها الفرصة للوصول للناس.

في فرنسا مثلاً تدعم الدولة الموزعين المستقلين لمساعدتهم في عرض أفلامهم في الصالات، وتدعم صالات السينما الصغيرة. في لبنان ليس لدينا أي من هذا، الأمر كلّه يتعلق بالمال والأرباح.

* بالحديث عن مشكلات التوزيع والإتاحة، وارتباط وجود الصالات الكبيرة في أماكن مثل المولات والأسواق التجارية، فهل يمكن أن يفيد وجود منصات البث، مثل نتفليكس وآبل بلس وغيرها، للوصول إلى جمهور أكبر؟

المنصات مهمة بالطبع في هذا الصدد، إنما في الوقت نفسه دورة حياة الفيلم فيها تكون قصيرة جداً، ومحكومة بالمنطق الاستهلاكي، وتفتقد التفاعل مع الجمهور. لكن أعتقد أن لا حلّاً بديلاً لها في الوقت الحالي، خصوصاً أن وضع السينما عالمياً صعب. حتى في فرنسا، مثلاً، قرأت أن عدد مرتادي الصالات انخفض بنحو 70% مقارنة بمعدلات ما قبل الجائحة.

* أخيراً، بالنظر للوضع البائس لصناعة السينما لبنانياً، فما الذي يبقيك نشطاً في المجال؟

- قد يبدو ما سأقوله مبتذلاً إلا أنه حقيقي في الوقت ذاته. حين أفكّر في الأفلام ومقاربة المواضيع أو أعمل على كتابة فيلم، وكل ما له علاقة بعملية صناعة الأفلام؛ أشعر أنه الشيء الوحيد الذي يعطيني سبباً للمضي قدماً. أحبّ هذا العمل، ولا أتعامل معه باعتباره مهنة. عندما أشرع في الكتابة والتفكير، أحسّ بأني أفعل شيء أحبّه وله معنى.

(*) يُعرض الفيلم حالياً في بيروت والقاهرة.
(**) إيلي داغر (1985 - بيروت) مخرج سينمائي وسيناريست ورسّام لبناني، التحق ببرامج دراسية في شتّى المجالات، وعمل في إطار الفنّ في مجالات عديدة. تخرّج من جامعة غولدسمث في لندن حائزاً على ماجستير في دراسة الفن المعاصر والوسائط الحديثة. في العام 2015، عُرض فيلمه "موج 98" في كبرى المهرجانات السينمائية، كما حصد به جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي في دورته الـ68. في العام الماضي، شارك "البحر أمامكم"، فيلمه الطويل الأول، ضمن قسم "نصف شهر المخرجين" بمهرجان كان السينمائي. أنجز هذا العام فيلماً تسجيلياً قصيراً بعنوان "إعلان حرب" عن تداعيات انفجار مرفأ بيروت. يعمل حالياً على كتابة فيلمه الطويل الثاني.