القارئ فقد الثقة في الكتاب العربي...والبديل هو المترجم

فايز علام
الخميس   2022/06/23
-1- 
حين كنت أحاول فهم رواية "أسلوب المنهج" لآلخو كاربنتييه... وجدت عشرات المقالات، وعشرات الدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه عنها بالإنكليزية فقط. وأعتقد أن الرقم سيكون بالمئات في الإسبانية (لغة الكتاب الأصلية). لقد حللوا حتى صوت السعال الذي سعلته الشخصية في مشهد ثانوي في الرواية!! بينما عندنا يحلم الكاتب بمقال يتيم، لا يخطئ في تلخيص حدث مهم من أحداث الرواية (فما بالك بتحليله؟)

-2- 
يقرأ العرب رواية لهاروكي موراكامي من ثلاثة أجزاء، كل جزء منها 600 صفحة، ويقرأون رواية لفيرانته بـ2400 صفحة... لكنهم إذا ما وجدوا رواية عربية من 400 صفحة، استنكروا... أما النقاد العرب فيكتبون عن "بدانة الرواية"! بل إنّ روائية مهمة أهديتها مرة رواية عربية هي من مفضّلاتي وتقع في 400 صفحة، فسألتني متعجبة: "بعد في حدا اله خلق يكتب 400 صفحة؟".

-3- 
في إحدى دورات الجائزة المشهورة "بوكر"، كتبت واحدة من أعضاء لجنة التحكيم عن استبعاد روايات كثيرة فيها أخطاء لغوية فادحة، وأوصت الناشرين العرب أن يدققوا كتبهم... وكانت في اللائحة القصيرة لتلك الدورة تحديداً رواية فيها كمّ من الأخطاء اللغوية والنحوية لا يقبله عقل. ثم كتب رئيس اللجنة في السنة نفسها عن توصياته لدور النشر من تجربته في التحكيم، وأوصى الناشرين بضرورة وجود محرر يعمل مع الكاتب على روايته لأنه وجد عيوباً كبيرة تكتنف الروايات التي قرأها... وقد فازت تلك السنة رواية فيها ثلاثة أو أربعة أخطاء سردية فاقعة، من بينها اختيار الراوي المشارك، الذي كان يعرف ما حصل بأدق التفاصيل مع كل الشخصيات من دون سبب مقنع يجعله يعرف كل ما يعرفه ويرويه لنا... أو من دون تبرير بسيط أياً كان (جملة بسيطة كتلك التي وضعتها ماريز كونديه مثلاً في روايتها عن أن الراوية كوكو ملأت الثغرات مما لم تعرفه بالخيال والتوقع)... 
يبدو أن "صاحب الرواية"، أهم من صدق تلك العضوة وصدق ذلك الرئيس، بكلامهما... وانسجامهما معه.

-4- 
يكتب كاتبٌ غربيٌّ ما، رواية كلها ألاعيب. وموضوعها علاقة جنسية مثلاً. أو ربما يكتب ثانٍ عن معنى النضج. أو يسطّر ثالث مئات الصفحات ليحكي عن عصابة هددت شركة البطل ورفض هو الخضوع... ولا يقترب أيٌّ منهم من "القضايا الكبيرة"، فنعجب ونصفّق ونهلل... لكن إذا كتب عربي رواية عن أي شيء على الإطلاق، ولم يكتب عن الحرب الدائرة في بلاده منذ سنوات، فإننا نشتمه ونسأل عن موقفه، ثم نضعه في تلك الخانة أو تلك مباشرة... 
"يا عيب الشوم. عم يحكي عن التعريص والناس عم تموت؟". جملة قالها لي يوماً ما قارئ صنديد، لكنها حفرت عميقاً في ذاكرتي... رغم عدم إعجابي بالرواية، لكن لأسباب مختلفة تماماً عن "التعريص" والناس التي تعاني وتموت.

-5- 
ينشر كثير من الناشرين العرب الروايات العربية على حساب المؤلفين، وبعضهم يأخذ من الكاتب ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف ما يكلف كتابه... وحين تفتح دارك "بازاراً" لا يجب عليك أن ترفض ما لا ترضاه ولا يعجبك... هكذا تنشر سنوياً عشرات الروايات في دور نشر كبيرة جداً، وهي روايات رديئة لكن أصحابها موّلوها... فيما كان للقارئ رأي آخر. 
القارئ استاء من هذا، وقرر تعميم استيائه ليشمل كل كتاب عربيّ مؤلف. 
مَن الجاني هنا؟ الدور التي فتحت أبوابها لكل حامل نقود؟ أم الشخص الذي قرر وحده أن كتابته تستحق رغم رفضها من دور عديدة وقرر أن يعاند كل شيء ويثبت لكل من رفضه أنه كاتب عبقري وله قراء؟ أم الناقد الصديق الذي طبّل وزمّر لصديقه صاحب الكتابة الرديئة؟ أم القارئ الذي عمّم التجربة السيئة؟

-6- 
ثمة روايات عربية نشرتها في "سرد"، وباعت كما يلي (خلال ثلاث أو أربع سنوات):  57 نسخة - 76 نسخة - 85 نسخة - 98 نسخة.... 
هذه أرقام حقيقية وواقعية. هل كلها سيئة؟ في رأيي: لا. لكن ماذا يهمّ رأيي؟ المهم هو رأي القارئ. لكن أين هو هذا القارئ الذي اشترى الكتاب وقرأه وأخبرني أنه سيئ؟ هل 57 أو 76 أو 85 أو حتى 200... هو رقم يمكن أخذه كعينة صالحة لتعطينا نتائج عن 430 مليون عربي؟ طبعاً مع افتراض أن من اشترى هذه النسخ قد قرأها وقال رأيه فيها، وهو ما لم يحصل أبداً. كل ما أعرفه عن هذه الكتب الأربعة، على سبيل المثال لا الحصر، هو آراء ما لا يتجاوز عشرين قارئاً على الأكثر لكل كتاب... واتفق معظم من قرأوا هذه الكتب على جودتها. هل هذا يعني أنني يمكن أن آخذ هذه العينة وأقول إن الكتاب جيد بنسبة تأكيد 100% ممن قرأوه؟ الإجابة: لا. هذه أيضاً ليست عينة صالحة لنأخذ منها نتائج.

-7- 
نشأت دار "سرد" لتنشر روايات عربية في المقام الأول. نشرنا أول سنة 10 كتب عربية مقابل 1 مترجم، وفي السنة الثانية نشرنا 7 عربية مقابل 5. ثم أعلنت استسلامي في السنة الثالثة. واتخذنا قراراً أن ننشر كتاباً عربياً واحداً في السنة مقابل 10 مترجمين. 
هل فعلت قناعاتي؟ لا طبعاً. هل بذلت ما بوسعي وحاربت؟ لا طبعاً. هل كان في الإمكان أكثر مما كان؟ نعم كان. لكني، بكل بساطة واختصار: لستُ مسيحاً. من حقي أن أتعب وأُهزم وأعلن استسلامي. من حقي ألا أخسر، من حقي أن أخاف على مستقبل مشروعي وحلمي. ومن حقي ألا أشعر باليأس والإحباط وأنا أرى 800-900 نسخة من كتاب أحببته، مكدسة في المستودعات وقد بدأ الأصفرار يغزو جوانبها. ومن حق من آمنوا بـ"سرد" وبي، وأعطوني رأس المال لأنطلق وأبدأ مشروعي... ألا أعود إليهم كل سنة طالباً أن يمددوا لي مهل الدفع لأن المشاريع التي أختارها دائماً خاسرة... ومن حق الموظفين الذين يعملون معي بأبخس الأسعار ألا أخبرهم سنة تلو السنة أن يصبروا على عدم زيادة رواتبهم، وأن يصبروا على التأخير الهائل فيها، وأن أكرر لهم: "لأن القادم أجمل"، وأنا لست متأكداً فعلاً أن القادم سيكون أجمل...

-8- 
كلنا مذنب بالمقدار ذاته في وضع الرواية العربية اليوم، وفي ما ستؤول إليه. وما الحلول التي أقترحها؟ عجزت. كل ما أعرفه أن ثمة روايات من بين تلك التي قرأتها أو نشرتها هي بالنسبة لي أفضل من مئات الروايات المترجمة التي قرأتها أو نشرتها. وكل ما أعرفه أن خبرتي ومعرفتي في القراءة، وأن مقدار الكتب التي قرأتها من كل آداب العالم... تؤهلني للحكم، وبه أقول ما أقول.

(*) مدونة نشرها الكاتب وناشر دار "سرد" فايز علام في صفحته الفايسبوكية.