يحيى جابر كحفّار متمرس: الطائفية تكمن في التفاصيل

ناجي سعيد
الثلاثاء   2022/06/21
خرجتُ وأخي من مسرح مونو، بعدما شاهدنا مسرحيّة "تعارفوا"، للمُخرج يحيى جابر(*)، واستقلّينا سيارة أجرة من منطقة "مونو" إلى "فرن الشبّاك". وما أردت أن أُخبِر بِهِ يحيى جابر، لكنّي أخبرت أخي فقط، معلومة سرّبها لي سائق تاكسي في منطقة بيروت -لشعوره معي بالأمان على ما يبدو- بأنّ وَضْعُ إشارة التاكسي البلاستيكيّة (التي تضيء ليلًا، وغالبًا ما تكون صفراء اللون) مُتعلّق بالتقسيم الطائفي! وكيف ذلك؟ قلتُ مُستغربًا. فقال لي بلهجتِه البيروتيّة الدافئة: "هودي اللي بلا مُخّ، اللي بعدهم عايشين بزمن الشرقيّة والغربيّة، وعشان يطمّنوا الركّاب اللي من هيدي المنطقة وبيخافوا يروحوا عا تاني منطقة، عشان هيك اتّفقوا يحطّوا الإشارة (التاكسي) بالطول إذا كانوا من هون، وبالعرض إذا كانوا من هونيكّ!!".

هذا الإبداع الطائفي ينتج عن الاهتمام العاطفي السلبي بالأنا، ليفضي إلى عزل هذه الأنا عن الآخر، فيحدث التقسيم الطائفي الذي يرفع الحواجز الداخليّة بين مكوّنات الوطن، فنتناسل انقساماتنا(**)، ليصبح لبنان خاليًا من اللبنانيين، مليئًا بالطوائف، فتصحّ مقولة جبران "الويلُ لأمّةٍ كثُرت فيها طوائفها، وقلّ فيها لبنان"! وفي عودة للمسرحية، يمكنني القول بأنّ يحيى جابر محترف في رصد الإشارات الطائفيّة من الشارع اللبناني. وقد أثبت في اعماله السابقة على سبيل المثال لا الحصر: "بيروت طريق جديدة/ ابتسم أنت لبناني"، قدرته الهائلة على تدوين المفردات الطائفيّة اللفظيّة والسلوكيّة. فيحيى من جيل الحرب، وقد عايش حروبًا عديدة أهليّة بين الطوائف على اختلافها. ومن الطبيعي أن لا يكون هذا الشخص المُثقّف والمسرحي مُحايدًا، في حربٍ أهليّة أجهزت على الهويّة اللبنانيّة. وهذا موقف فئة كبيرة، كانت واعية لعدائها لخط يميني كانت "الحركة الوطنية" آنذاك تعتبره إنعزالياً وتأخذ عليه أنه لا يرى خلافًا مع الكيان الصهيوني.

وبالتفصيل اللبناني، كان موقف اليسار "المُثقّف"، واضح الميل إلى المشاركة في الحرب الأهلية لصالح "المشروع الوطني" كما كان يُدعى حينذاك. والمشاركة في الحرب تعني الإيمان بإلغاء الآخر، حتّى لو كان من مُكوّنات بلد الطوائف. ومشكلة الهويّات، أنها ذات حساسيّة مُفرطة، فمجرّد شعور الخوف من فئة، يزيد العداء لها الذي يُتَرجَم في تصرّفات وسلوكيات تزيد "التقسيم" بلّة. وبالتالي ترتفع متاريس الحرب، وتتجذّر بين مكوّنات مختلفة وليست بالضرورة مُتخاصمة.

يتعمّق الخلاف فتصعب لملمة هذه المكوّنات المتباينة التي تشكّل وطنًا واحدًا، والتي تعاني هشاشة وضحالة في هويّتها المواطنية، هشاشة جعلتها سهلة الرجوع إلى ملاذات خارجية، مرتكزةً في أغلب الظنّ على الهويّة الدينية وبشكل أدقّ وأكثر تقسيمًا "الهويّة الطائفيّة المذهبيّة".

التفاصيل التي ذكرها المخرج في عمله، تصيب عُمق المشكلة التي أودت بلبنان كوطن واحد. نعم فالمشكلة تكمن في تفاصيل تترسّخ بعد تداولها شعبيًّا، فتتحوّل أحكامًا قاسية، ولو كانت مغلوطة، تتحوّل حقائقَ في نظرِ مَن يُطلقها ومَن تُطلَق عليه. ليس تفصيلاً أن يختلف المسيحي عن المسلم بأن الأول لا توجد في مرحاض منزله "شطّافة"! فالمسلم ومن باب الطهارة المشروطة إقامة الصلاة بها، أن "يتشطّف" بعد استخدامه المرحاض، فالشطّافة المذكورة في أحد المشاهد، ليست تفصيلاً شكلياً، فلو بحثنا عن سبب وجودها في المنزل، لربطنا أثر المُعتقدات الدينيّة على العمارة، وخير مثال حدث معي، حين انتقلنا إلى مقرّ جديد كمكتب للجمعيّة التي أعمل فيها. طلب زميلي (وهو ملتزم دينيًّا) من صاحب المكتب الذي استأجرناه كمقرّ للجمعيّة في منطقة تسكنها غالبية من الطائفة المسيحيّة (قبل الحرب)، أن يُركّب في المرحاض "رشاش ماء" ليحلّ محلّ الشطّافة. وهذا إيجابي يفضي إلى قبول الإختلاف. لكنّ مَن يعلم ما يضمره المُسلم "حسين" تجاه المسيحي "نيكولاس" الموظّف النشيط الذي لا يتاخّر عن الحضور مُبكّرًا إلى المكتب يوميًّا؟ لم ينف يحيى جابر صفة الإنسانيّة عن أي شخص في العمل المسرحي، حتّى لو كانت الشخصيّة قد وُلدت في بيئة، وتربّت في كنف طائفة مغايرة.

كردّ فعل على المظلوميّة الذي ورثها الشاب الشيعي من الضاحية الجنوبيّة، يرتدي زيًّا عسكريًّا وحذاء عسكرياً ورثه عن والده الفقير الذي لا يملك المال ليبتاع له حذاءً جديدًا. ومن خوفه منه، فَهِمَ الآخر هذا الزيّ العسكري –الخائف أيضًا- كنمط، مع أنّه ليس إلاّ حالة اجتماعيّة!

الزيّ الآخر أصبح هويّة تُشكّل ردًّا على الزي الشيعي العسكري. فالمسيحي احترف شخصية "الكلاس" النظيف المُرتّب الذي لا يخلو سلوكه من الإشمئزاز من الآخر الشيعي أو السنّي. وعلى رغم اختلافهم جميعاً، فإنهم يشتركون في التنمّر على أي آخر، وفي النظرة الذكوريّة للأنثى الجميلة! فقد كان واضحًا كعين الشمس، أن مشكلة الطائفيّة تطفو على سطح الإنسان/ اللبناني/ الذكر/ الجغل/ الذي يؤمن بالأحكام المسبقة على الآخر والتعاميم.

رسالة يحيى جابر واضحة وعلّها تصل إلى الفئة النخبويّة التي حضرت المسرحيّة، فهي المقصودة أيضًا لِلُبنانيّتها. فقد اكتفت بالضحك عند مرور "تنمّر" في المسرحيّة من فئة على أُخرى، وهذا مؤسف وهو مؤشّر غير مريح لبناء وطنٍ، كَثرت فيه شخصيّات طوائفه وقلّ فيه الإنسان. وما الذي تتوقّعه من أشخاص يقهقهون ضحكًا على صديقهم لو "تفركش" ووقع! وحتّى لو تأذّى! يضحكون! لقد كان التعارف بالختام، بأن ذَكَر كُلّ اسمه، وقال: لكن أنا إنسان. وهذا يُطابق ما قاله أحد المُتصوّفين: كُنّ ما تريد أن تكون ولكن كُلّنا وطن.. و"إنسان".

(*) يقدم قريباً مسرحية "هيكالو" تمثيل عباس جعفر، وهي تنقل أجواء بعلبك الهرمل.
(**) 
مصطلح استخدمه الدكتور أحمد بيضون في أحد اللقاءات