ودائع أوديب في المصارف اللبنانية

رشا الأطرش
الجمعة   2022/06/10
اللبنانيون شعب ادّخاري بامتياز. قرشه الأبيض ليومه الأسود. جميعنا يحفظ الكليشيه، بل يجلّه ويُقسِم به. لعلها فِطرة مُرّرت لنا مع حليب الأمهات، جيلاً بعد آخر. منذ حقبات الحروب العالمية والجراد والمجاعات، إلى أزمنة المقتلات الأهلية وتوالي حقبات التفكك والخراب. بل قبل هذا كله، كلنا ترعرع على "المُونة"... مرطبانات بالعشرات، مخللات ولحوم مملّحة، حبوب وزيت، وفاكهة مجففة ومطبوخة لأيام الشتاء العجاف. لن ينفعنا أحد حين تهب عاصفة الحاجة. كنّا كلنا سناجب مجتهدة، وطبّقنا الحِكمة. كلنا استبطنها، بوعي أو بلاوعي، حتى مَن تمرّد منا على الصيغ الوظيفية التقليدية، بالابتكار المهني، بالاتكاء على تحويلات الأقارب من الخارج، أو بالخيارات البوهيمية. هي ملاليم بيضاء بمقياس الثروات، لكنها لطالما كانت قوت الطموح والأمنيات والرغبات المؤجلة... وهي الوجه الآخر للأرقام التي باتت الآن واجهة أزمة المودعين: 99% من الودائع المصرفية اللبنانية هي ودائع متوسطة وصغيرة بـ200 ألف دولار وما دون، و88% من الودائع بـ100 ألف دولار أو أقل. هذه مبالغ ليست من صنوف الغِنى، بل تراكمات رواتب وتعويضات ومشاريع منمنمة، وسلوكيات حرمان صغيرة ممنهجة، مع "فراطة" أحلام بشيء من السعادة والأمان والاستقرار في بلاد اللارعاية، ولو بعد حين.


لقد شهد تاريخ العالم ثورات وتظاهرات بشعارات ضد تركّز الثروات في طبقة الـ1%، ربما أكثرها حضوراً وطزاجة في الذاكرة حركة "احتلوا وول ستريت". لكن اللبنانيين، قبل 17 تشرين 2019، غالباً ما تركوا معاركهم واحتجاجاتهم للغرائز، الطائفية والإيديولوجية، فيما انهمكت الـ99% في مكافحة وطأة الـ1% بالادخار، عندما كان ذلك لا يزال ممكناً... عندما ظنّ الجميع، عن جهل أو سذاجة، أنهم آمنون بين يديّ المصرف، القطاع الخاص الذي لن يناله بؤس العام وفساده العتيق وزبائنيته المتجذرة، جوهرة التاج من أيام "سويسرا الشرق" بل وصمد خلال الحرب الأهلية. ظنوا أنهم حلّوا الاستعصاء، حينما توقفوا عن انتظار أي شيء من الدولة وبادروا إلى أمانهم بأنفسهم، رغم استمرار كثر في سداد الضرائب والرسوم، برضاهم أو مُجبرين.

رقم الـ99% ثقافي، بعد دلالته المأسوية لواحدة من أكبر عمليات السطو في التاريخ الحديث. ثقافة الادخار اللبنانية، التي قد يجازف المرء بالقول إنها تقترح باباً جديداً غير مطروق تماماً في أدبيات النوع. تلك الدراسات التي تضطلع بها، منذ عقود، مؤسسات مصرفية وأكاديمية حول العالم، إلى جانب البنك الدولي، من أجل فَهم أعمق لـ"المدخرات الوطنية"، وسلوكياتها بحسب الجنسية والجندر، ما يتيح وضع سياسات أجدى، سواء بالمعنى التسويقي التجاري، أو على مستوى الإدارة الحكومية والعولمة. لكن الادخار اللبناني، لا سيما بعد ما آل اليه انفجار فقاعة الوهم، سيربك الاستدلال بالقيم الثقافية الأكثر تأثيراً في معدلات الادخار: التوجه المستقبلي (مدى اعتقاد الناس بأن أفعالهم الحالية ستؤثر في مستقبلهم). النزعة الجماعية (المجتمعات القائمة على الأسرة الممتدة أو المجموعة وبالتالي يزداد ميل الفرد للادخار كي لا يكون عبئاً على الجماعة في كِبَره). والسعي إلى اليقين أو الطمأنية.
كلما ازداد وزن هذه القيم، ارتفعت المدخرات، بحسب الدارسين.

للوهلة الأولى، تبدو العناوين الثقافية الثلاثة روح السلوك الإنفاقي/الادخاري اللبناني، وهذا ما ظنّه اللبنانيون بالفعل.. إلى أن اكتشفوا أنهم مهما فعلوا في حاضرهم، فهم لا يملكون ناصية مستقبلهم ولا توجهه. ومهما حاولوا التخطيط ليكونوا خِفافاً على أُسرهم، عادوا وصاروا عبئاً وهمّاً لن ينزاح قريباً. ورغم سعيهم المحموم لليقين، هؤلاء الذين لم يبيّضوا أموالاً ولم يختلسوا ولم يتقاضوا رشاوى، فإنهم اليوم يُعاقَبون بما يشبه الإفلاس الاحتيالي حتى أصبح أكثر من نصفهم خارج النظام المصرفي، كما يُهدّدون حتى في احتمالات الإنقاذ والتعافي البطيء بكلام يسود الآن عن رهن/بيع أصول الدولة في "صندوق سيادي".

اللافت أن ثقافة الادخار عالمياً، وعلى عكس ما يُعتقَد، لا تُرسم ملامحها الأهم وفقاً لمعيار العيش في كنف دول غنية أو أنظمة رعاية/رفاه. فالأميركيون الذين لا يحظون بما يحظى به أوروبيون من ضمانات اجتماعية، أكثر ميلاً للإنفاق وأقل قلقاً على المستقبل. والبلدان الاسكندنافية، المعروفة كموطن لبعض من أسعد الناس في الكوكب، ضرائبها من الأعلى في العالم، وبحسب الدراسات فإن شعوبها غالباً توازن بين العمل والاستمتاع بالحياة المؤمّنة مقوماتها الأساسية بشكل صلب. ومع ذلك فإن الادخار ليوم ممطر، جزء لا يتجزأ من الثقافة، لكن من أجل ماذا؟ بحسب دراسة حديثة، فإن غالبية الرجال الفنلنديين، مثلاً، يركزون على رفاهيات التقاعد كهدف ادّخاري، فيما تدخر النساء لقضاء العطلات والسفر. الرجال أكثر ميلاً للاستثمار وزيادة رأس المال، فيما تستخدم النساء الحسابات المصرفية للادخار.

وفي ليتوانيا، الاقتصاد الأكبر بين دول البلطيق، يختار الرجال غالباً استثمار الأموال لتنمية ثرواتهم، بينما تبذل 6 من كل 10 نساء جهدًا للادخار، والأهم أن الليتوانيات غالباً ما يدخرن وفقاً لخطط تستشرف حياة العائلة بعد عشر سنوات على الأقل.

في أوروبا الغربية، فرنسا وألمانيا والنمسا وبلجيكا، نرى اقتصادات قوية وتقديمات اجتماعية معتبرة، لكن الميل للادخار يبقى ملموساً. فعقود من حث الدولة لمواطنيها لتوفير جزء من دخلهم، بشتى الأطر والمؤسسات والقوانين، مُضافةً إلى ذاكرة الحرب، باتت مكوناً عضوياً في التركيبة النفسية للأفراد وأرباب العائلات.

موظفون ومبدعون، تجار وحرفيون، أصحاب مهن حرة وطلاب... كل لبناني امتلك حساباً مصرفياً، مارس ضرباً من ضروب الادخار. كمجتمع بوقود أنثوي (غالباً بدفع من أمهات وزوجات وحبيبات)، فضّلنا المصارف وادّخرنا وفق خطط عشرية وعشرينية: لشراء بيت لا نُطرد منه في ظل قانون إيجارات ملتوٍ ومضايقات زعامات الشوارع، لضمان تعليم جامعي جيد للأولاد في ظل تردي التعليم الرسمي ومعاناة الجامعة الوطنية، للشيخوخة التي قد لا تكفل كرامتها تعويضات الصناديق المختلفة ناهيك عن أن كثر بلا مظلة أي صندوق، للطوارئ، لبطالة محتملة لا أحد يضمدها، للمرض الذي قد لا يغطيه الضمان الاجتماعي أو وزارة الصحة، لترك إرث ما في غياب الأملاك...

منذ ما قبل الأزمة ونحن متروكون. لكن الطبقة الوسطى كانت أكبر، وكذا مداميكها، والوَهمُ كان الواقع الوحيد. وَهمُ القرش في البنك، للهرب من قدر شقيّ مع دولة المزرعة. هكذا، يتبدى الادخار اللبناني اليوم، أقرب إلى العقدة والتراجيديا، منه إلى الثقافة. مثل أوديب، قتل اللبنانيون الدولة. ارتبطوا بالمصارف غافلين/مستغفلين، ومن دون ذنب المعرفة الكاملة بعلاقتها بأقطاب الحُكم. وها هي عيون حيواتهم تُفقأ بفجيعة ما علموا وذاقوا بعد فوات الأوان.