زهير الجزائري.. صورة أخرى للنجف

بشير البكر
الإثنين   2022/05/23
يتغير قاتل الحسين حسب الأزمنة، مرة العسكري الإنكليزي، وأخرى رجل الأمن، وثالثة الديكتاتور (غيتي)
"النجف الذاكرة والمدينة"، صورة ذاتية لهذه المدينة في خمسينيات القرن الماضي، يرسمها الكاتب العراقي زهير الجزائري بعدما جرب السفر طويلاً، ثم عاد إلى مسقط رأسه ليفتح الدفاتر والمقابر والخزائن، فنجد أنفسنا أمام مدينة دينية ودنيوية لها تاريخ مع العطش رغم أنها على بعد أميال من نهر الفرات، تكونت ضمن آليات الصراع داخل الديني من جهة، والمكونات العشائرية من جهة أخرى. وهذه المدينة ذات روح خفية تكمن في أنها رسمت صورتها عن نفسها "أنا مدينة العلم وعلي بابها". والفقه هو علم المدينة الذي يحدد الفارق بين الحلال والحرام، وهي المدينة التي خصها المعممون وحدها بـ"الأصول". وبعيداً من "الصحن" والمقبرة، هناك مصادر مختلفة للمعنى وعوالم أخرى. الأحزاب والكتب والمجلات والسجون، والثورات، والأحلام، والحروب.

الكاتب ترك النجف التي ولد فيها، وسافر عبر المدن الأخرى، ثم عاد بعد غياب استمر أربعة عقود ليرى مدينة الطفولة البعيدة، في عين الحاضر، متوجساً من مخاوف ثلاثة: النسيان، اللوم، الموت. لكنه حين عاد، لم يجد المدينة التي يعرفها، ولم يلق كما أراد أهلاً في استقباله، لذلك اتخذ من فندق الغرباء نزلاً، ولم يلُمه أحد على ذلك، حتى ابن عمه الذي تعرف عليه صدفة. بل إن النجف صارت بأكملها نزلاً للغرباء، هذه المدينة المقدسة لدى الشيعة يأتونها من كل مكان ويتكدس فقراؤهم حول "الصحن" الخاص بضريح الإمام علي بن أبي طالب، تطرح عليه السؤال المقلوب، الذي لم تمنع فيه قدسية المدينة، من أن تشكل جيلاً من أبنائها العلمانيين، وداخل مجتمعها تنمو تباينات حتى داخل العائلة بين متعصب ومعتدل ومتنور وعلماني، وعائلة الجزائري واحدة من بيوتات النجف المعروفة التي لها دور ضمن تطور الفقه الشيعي. وفي رحلتها القريبة، جاء الأب والأم الجدات والأجداد، من الأهوار إلى بغداد، ثم النجف مدينة الملح التي يطلبون فيها العلم. هنا يتعرف المعلم الفقير شديد الاهتمام بالأناقة وبآلة العود التي يضعها عند قلبه حين يعزف المقامات وأغاني عبد الوهاب، على أميرة، الصبية البغدادية المغتربة عن مدينتها، فيتزوجها وينجبان آمال التي ستوجعهما وفاتها قبل أن تكمل عامها الأول، ويولد زهير في مدينة ثانية سدة الهندية، بعد نفي والده من النجف بسبب نشاطه المعارض، إلا أنه عاد بعد ثلاث سنوات.

الصحن العلَوي
محلات النجف الأربع (العمارة، الحويش، البراق، المشراق) تحيط بالصحن العلوي باعتباره مركز المدينة الروحي والمعماري، ويشكل الدلالة والمعنى للمدينة وهوية ناسها النجفيين الذين يعيشون وسط "معجزات" يولدها ضريح الإمام علي، ومنها انحراف ضوء الشمس عند الشروق ليسقط أولاً على شباك الضريح، الذي يتحول الى مركز للوعظ والإرشاد الديني، حيث يحرك خطباء المنبر دواخل مستمعيهم من خلال الجمع بين الحكاية والشعر والغناء، ثم يفجرون البكاء الجماعي في لحظة المقتلة. ومن حول الصحن تتناسل الرموز الدينية، وداخله تنعقد جلسات طلاب الحوزة. وسواء كان الناس علمانيين أم متدينين، فإنهم يرون الراقد في الضريح رمزاً لهم جميعاً. أما والد زهير، العلماني، فكان يرى الإمام علي رجل مبادئ لا يصلح لإدارة الدولة التي "تحتاج إلى مستبد مثل معاوية يغير المبادئ وفق حاجات الحكم". وكان يردد دائماً، "لو عاد حياً لخلصنا من العمائم التي تتطفل على اسمه". وهناك الاتجاهان المتصارعان، واحد يدعو لتحمل الألم والصبر والبكاء على القبور في انتظار المهدي المخلص، واتجاه آخر يدعو للثورة والشهادة إسوة بالإمام علي وابنه الحسين، وفي ضوء ذلك يقسّم رجال الدين الناس إلى "حسني" مسالم، يقابله "حسيني" ثائر على الظلم محب للشهادة.

وفي النجف أقام كبار علماء شيعة العراق، والقادمون من خارجه، أمثال محمد حسين كاشف الغطاء، عبد الحسين الجواهري والد الشاعر محمد مهدي الجواهري، علي بحر العلوم، الخميني، محمد سعيد الحبوبي، والمرجع الإصلاحي السيد أبو الحسن الموسوي الاصفهاني، الذي فقدت النجف مرجعيتها بعد وفاته فترك انقساماً بين علماء الشيعة بين مجاراة عادات العوام وبدعهم وبين الذين يريدون الإصلاح وتخليص الدين مما سموه بدع الجهل. وإلى الغرب تقع الدرعية التي تطل على بحر الملح وبساتين الشوافع، جوها يختلف، فهي قريبة من البادية، هناك تجد لابسي العُقُل الغليظة وحاملي البنادق والمسدسات، أبناء العشائر المسلحة الذين شاركوا في ثورة العشرين، وحين فشلت علّق الإنكليز جثث بعضهم من أجل تخويف الباقين. لكن هذه العشائر متقاتلة في ما بينها، وتسود الثارات في كل مكان، وحين يلعلع الرصاص بين العشيرتين يخفت صوت الزعامات الدينية، وذلك كله بسبب المنافسة على ممرات تهريب السجائر والسلاح من السعودية عبر البادية. لكن دَور العشائر تراجع لاحقاً لصالح الأحزاب، حينما غادر العديد من أبنائها الثارات إلى السياسة، فصار مهدي العبدالله شيخ البو عامر وجهاً بارزاً في حركة السلم التي يقودها الشيوعيون. لكن الكاتب زهير الجزائري، وهو حفيد الشيخ عبد الكريم الجزائري، أقرب إلى والده من جده. فالوالد علماني، بينما الجد مرجع ديني مشهود له في النجف التي كانت حاضنة للغة العربية، وأرض استقبال للهاربين مثل جمال الدين الأفغاني الذي لجأ إلى النجف في منزل السيد محمد سعيد الحبوبي، هارباً من إيران. وكان شيوخ النجف الإصلاحيون، مثل الأخوان عبد الكريم الجزائري ومحمد جواد، يواجهون التمييز من العثمانيين والمراجع الإيرانية، وهم الأكثر فقراً، بينما تتدفق الأموال على مراجع أقل شأناً وغرباء عن البلد. محمد جواد يدرس النحو والفقه في المدرسة الأحمدية، ومن تلاميذه محمد باقر الصدر ومهدي الحكيم، بينما شقيقه عبد الكريم مشغول بأحداث عصره السياسية، كان السياسي ياسين الهاشمي يستشيره في كل صغيرة وكبيرة، وكان يردد: الاستقلال ثم الاستقلال. لكن الأول كان من أوائل جنود الثورة ضد الإنكليز وربما شهدائها، وكان الهجوم على مركز إنكليزي ذريعة لحصار النجف وتعليق جثث الثوار، بينما أنقذه شيخ المحمرة خزعل، من الإعدام، بفضل صداقته مع الإنكليز، وانتهى إلى موقف راديكالي رفض فيه الاعتراف بتكوين الدولة العراقية وحرّم العمل فيها، لأن ملكها فيصل الأول مستورَد من الحجاز، ولأنها مستعبَدَة للكفار.. على عكس شقيقه عبد الكريم الذي اختارته العشائر ليفاوض الإنكليز باسمها أثناء حصار النجف العام 1918، ورأى أن الصراع على قيادة الدولة ليس طائفياً، بل من أجل البقاء، وان الاستعانة بالمستشارين الإنكليز ليس حراماً. ويختلف الأخوان شعراً، فمحمد جواد الذي يعارض إيليا ابي ماضي بقصيدة "لست أدري"، يخالفه عبد الكريم الذي يقول في إحدى قصائده "قم للسلافة واتلُ آية الطرب".

أصول
وتعود أصول عائلة الجزائري إلى قبيلة بني أسد التي دفنت جسد الحسين وافتقدت رأسه، جدّهم أسد بن خزيمة جاء من شمال الحجاز، واستقروا جنوبي الفرات وعاشوا بين القصب في "الجزاير" صيادي سمك ومزارعين ومربي جواميس. ورحلوا لاحقاً إلى النجف في فترة كانت موبوءة بالطاعون. وما نقل العائلة إلى وضع مختلف، هو أن الوالد استبدل العمامة بزيّ الأفندية وابتعد عن المدرسة الدينية، ودرس الموسيقى (العود) والمسرح، وأدخل الراديو إلى البيت، ما اغضب الجد محمد جواد الذي اعتبر البيت ملهى بإدخال الراديو. وحين ينهي الوالد ربع العرق، يفيض بالحب، تاركاً المشاكل والمسؤولية على زوجته أميرة عبد اللطيف. وعندما دخلت الكوكا كولا إلى النجف، دار جدل حول وقف تقريب الفوهة من الفم، فهل تحتوي على مادة من دهن الخنزير؟ هل فيها شيء من الكحول؟ وفي النهاية نفى أحد المراجع تحريمها.

ويمر الكاتب على طقوس عاشوراء، التي صارت تأخذ بعداً سياسياً، بدلاً من كونها حادثة مأسوية تاريخية، وتأكيداً للمظلومية والهوية الشيعية، ويتغير قاتل الحسين حسب الأزمنة، مرة العسكري الإنكليزي، وأخرى رجل الأمن، وثالثة الديكتاتور، والمراجع والمجتهدون يرون هذا الطقس بدعة دخلت الإسلام في عهد البويهيين، وهي تتراوح بين عقاب النفس والاستعداد للحرب المجازية، أو كطقس شعبي ملحمي استلهمته الفنون كموسيقى ومسرح ولوحات تشكيلية. ومنذ منتصف الخمسينيات، تغير الوضع ودخلت السياسة بقوة، وكانت النجف تتلبد بالسُّحب، وحين تحدث عالم الدين محمد الشبيبي عن الشهيد الحسين، فقد كان يتحدث عن ابنه الشهيد حسين، ولم تلبث أن تعطلت صلاة الجماعة في النجف وترك المراجع الصحن لأولادهم الغاضبين ضد الملكية.

وبعد ثورة 1958 وإلغاء الملكية، تغيرت قراءات زهير الشاب، مع دخول كتب كانت ممنوعة سابقاً. وأول الكتب التي أثّرت فيه، رواية "الأم" لمكسيم غوركي، وما خلفته من أثر هو الفزع من السجون وقصص عذابات الشيوعيين الذين خرجوا من سجن نقرة السلمان. ثم جاء زمن تغيرت فيه الفضيلة نفسها، ولم تعد تتعلق بالصلاة والوضوء والنجاسة والأمانة والصدق، وإنما بالسياسة والجهاد. وصارت الفضيلة على أيدي الأبناء أقرب إلى السياسة. ومن ثم أصبحت المقاهي التي تكاثرت بمواجهة الجوامع، لأنها صارت أمكنة للاستماع للراديو ومتابعة الأخبار والتعليق عليها، ولكل فئة مقهى خاص بما في ذلك المهربين والأحزاب، واحد للشيوعيين وآخر للقوميين. ويختار الكاتب الانتماء الشيوعي أسوة بأخواله، وعلى خلاف والدته التي لم تؤمن ولا مرة باحتمال انتصار الشيوعية، وكانت تقول: قضيتان ميؤوس منهما فلسطين والشيوعية".

للنجف حصة من الثورة ضد الملَكية والانقلاب على عبد الكريم قاسم، شهدت النشوة والانتكاسة مثل كل أنحاء العراق الذي عاش أياماً دامية على وقع البيان الذي كان يبثه التلفزيون والاذاعة، والمعنون "أبيدوهم". وهكذا عاش العراق منذ ذلك اليوم، إبادة تلد إبادة أخرى.