لبنان واحد.. لا لبنانان

محمود الزيباوي
الجمعة   2022/05/20
صائب سلام يلقي محاضرته في "الندوة اللبنانية".
منذ تأسيس دولة لبنان، يظهر عمق الانقسام بين اللبنانيين في كل مناسبة، أكانت داخلية أم إقليمية. ومع كل ظهور لهذا الانقسام الحاد، يستعيد البعض شعار "لبنان واحد لا لبنانان" الذي ابتدعه صائب سلام منذ عقود. يُقال عادة بأن هذا الشعار وُلد بعد اندلاع أحداث 1958 التي هدّدت بحرب أهلية في لبنان، في عهد رئاسة كميل شمعون. في الواقع، رفع صائب سلام هذا الشعار في صيف 1960، في عهد الرئيس فؤاد شهاب، بعد تولّيه منصب رئيس الحكومة للمرة الثالثة في مسيرته السياسية، وقام بشرح هذا الشعار في محاضرة طويلة ألقاها في مؤسسة "الندوة اللبنانية" في نيسان 1961.

فبعدما قاد الجيش مدة 13 سنة، انتُخب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية اللبنانية في صيف 1958، وقدّم نفسه كمرشّح توافقي بشعار "لا غالب ولا مغلوب"، وبعد عامين من ولايته، وبعد إجراء الانتخابات النيابية، قدّم استقالته، حين رأى أن البلاد استقرت وعادت إليها الحياة الديموقراطية الطبيعية، فتداعى السياسيون إلى منزله وأقنعوه بالبقاء في منصبه. في الحقبة الأولى من هذا العهد، تولّى رشيد كرامي منصب رئيس الحكومة، وخلفه صائب سلام في الحقبة الثانية. تضاعف عدد الوزراء في عهد صائب سلام إلى ثمانية عشر، واعتبر هذا الرقم خرافياً يومذاك، وأطلقت الصحافة على الحكومة لقب "فرقة 18". كذلك تضاعف عدد النواب بشكل كبير في هذه الحكومة، وشاع قول الشاعر الشعبي عمر الزعني في هذا الشأن: "النواب كانوا عشرين/ عملوهم خمسة وخمسين/ زادوهم سبعة وسبعين/ ورجعو ام أربعة وأربعين/ وصلو للستة وستين/ زادوهم تسعة وتسعين/ ودربكهم للميّة/ الحالة هيه هيه".

في ذلك الزمان، استمر الانقسام بين اللبنانيين، ولو بشكل مختلف، ورفع صائب سلام في وجه هذا الانقسام شعار "لبنان واحد لا لبنانان"، ودعاه مؤسس "الندوة اللبنانية" ميشال أسمر إلى القاء محاضرة حول هذا الشعار في نيسان 1961، وذلك بعد مرور تسعة أشهر على توليه رئاسة الحكومة. تابعت الصحافة اللبنانية هذا الحدث، ونشرت مجلة "الأسبوع العربي" مقالة طويلة استعرض فيها جان عبيد أبرز ما جاء في هذه المحاضرة، وكان صحافياً شاباً في الحادية والعشرين من عمره. حملت هذه المقالة عنواناً مثيراً: "رئيس حكومة لثمانية عشر لبناناً يحاضر عن لبنان واحد لا لبنانان"، وذلك في إشارة إلى عدد الوزراء في حكومة "الفرقة 18". وجاء في المقدّمة: "افتتح الناس الأسبوع بمحاضرة رئيس الحكومة عن لبنان واحد لا لبنانان، ثم عاش الناس طوال الأسبوع في البلد الواحد الذي توزّعته عدّة لبنانات، مع إضراب المحامين، وانشقاق المحامين، وانشقاق الحكومة تأييداً ومعارضة للإضراب، وخلال ذلك استقبلت بيروت عدة ضيوف، وعاشت حياتها الاعتيادية، بين حفلات الكوكتيل والسهرات".   

استهلّ جان عبيد مقالته بالحديث عن دولة الرئيس صائب سلام، صاحب "الوردة التي تزهو على صدره، ويزهو هو بها"، وقال إن المحاضر تحدث طوال ساعة كاملة، بكلامه المنمّق وعباراته الشاعرية. اللافت أن الصحافي استبق عرضه للمحاضرة بالقول متسائلاً: "هل خطا صائب سلام ووزراؤه منذ تسعة أشهر حتى الآن الخطوة الأولى المبدئية لإرساء زاوية هذا اللبنان الواحد الذي يدعو إليه، ودكّ قوائم هذين اللبنانَين، بل اللبنانات التي تنتصب هنا وهناك في كل بقعة ونفس لبنانية؟". في مقدمة محاضرته، تطرّق صائب سلام إلى "أصول التباعد بين اللبنانَين"، وأشار إلى "الفئتين اللتين تقيمان وتتجاوران في هذا الوطن" بعقليتين متباينتين، عند اعلان الجنرال غورو ولادة لبنان الكبير العام 1921. انقسم لبنان يومها إلى "لبنانَين متنافرَين منفصلَين، الواحد يقبل بالانتداب ويتعاون معه، والآخر لا يقرّ بوجوده". اتجه المعادون للانتداب شطر الحدود، أملاً في الخلاص من نير الحكم الأجنبي "بمساعدة إخوانهم الجيران أو من دونها"، وشعر الفريق الآخر سريعاً بثقل هذا الانتداب، وعبّر البطريرك الياس الحويك عن هذا الشعور بقوله: "ثبت أنّ فرنسا كالنار، وكنا نتدفّأ بحرارتها وهي بعيدة، أما اليوم وهي قريبة، فإن لهيبها أخذ يحرقنا". والمعروف أن البطريرك الحويك لعب دوراً في إنشاء دولة لبنان الكبير، وكان أبرز أصدقاء فرنسا. عمل فريق كبير من أعلام الفكر والشعر والأدب والسياسة في الوطن والمهجر، على شد المعسكرين بوشائج المصلحة المشتركة، وساهم ذلك في الوصول إلى ميثاق 1943.

بحسب المحاضر، "لاقت فكرة الميثاق الدسائس والأحابيل والحراب والدبابات من المستعمر، لكنها قوبلت في الوقت نفسه من اللبنانيين بالتأييد المطلق المدوي، فإذا اللبنانان لبنان واحد صف واحد وقالب واحد، لا مسلم ولا مسيحي، ولا سلبي ولا إيجابي، وإذا التأييد يتجاوب في الأقطار العربية الشقيقة، فتنادي مجتمعة بتعزيز استقلال لبنان". وهكذا لم يعد لبنان "لطائفة أو طوائف معينة من أبنائه، بل إنه قد اكتسب صفة الوطن الحقيقي، وخلع عنه ميزة الوطن الديني". ثبّت هذا الميثاق لبنان الواحد، كما ثبّت عروبته، وكرّسه "دولة حرة لا انفصام أو انفصال في أراضيها"، غير أن هذا الوطن الواحد ظلّ يواجه عدداً من "المشاكل الكبرى"، أولاها الطائفية، وهي بحسب تعبير صائب سلام "الفهم الخاطئ للدين"، والقضاء عليها لا يتمّ إلّا بـ"التقاء جوهر الدين بجوهر الحضارة واتحادهما بجوهر واحد"، وذلك بتبنّي "الثقافة التي تحرّر من غرورنا وتبجحنا بأننا مصدر النور والاشعاع، لتركّز النهضة على العلم، أي البناء على الإيمان بالعقل والخضوع لأحكامه، ولكي تكون إنسانية مبنية على اعتراف الإنسان بحقوق أخيه، ولكي تجعل غاياتهما تنمية مواهب الإنسان ودفع طاقاته في سبيل الخير". 

بعد هذا الكلام الجميل الذي يتجنّب الدخول في لبّ المسألة الطائفية، رأى صائب سلام أن "الأسس الثقافية غير متوافرة عندنا كلياً"، وأن "بناء اللبنان الواحد" يقتضي "خلق المواطن اللبناني الواحد"، عن طريق توجيه الدولة وإدارتها، كما يجري في الدول الغربية، وذلك بتعزيز المدرسة الرسمية وتقويتها في سبيل إنشاء "النواة الصالحة لجيل لبناني موحد المشارب متراص البنيان والصفوف، وطني الروحي والعقلية".
 
من المشكلة الطائفية والمشكلة التربوية، انتقل المتحدّث إلى المشكلة الاقتصادية، فتطرّق إلى التفاوت الكبير في الحالة المعيشية، كما في البقاع والشمال والجنوب، حيث "الأدلة صادقة صارخة على المستوى الذي ترزح فيه جماهير غير قليلة من اللبنانيين"، وأشار "إلى سياسات عملت على توسيع الشقة بدلاً من تضييقها بين الفئات التي يتألف منها المجتمع اللبناني"، واستشهد بثورة طانيوس شاهين 1859 في كسروان، ورأى "أننا معرضون لأن نشهد التاريخ وهو يعيد نفسه، إذا لم تزُل المسبّبات التي تخمر وتفجر أسباب النقمة والثورة". في هذا السياق، رأى المحاضر أن الاقتصاد اللبناني يرتكز على قوائم هزيلة، وأنّ ازدهاره ظاهر خداع فحسب، واستعاد بيتاً من قصيدة قالها المتنبي لسيف الدولة الحمداني أمير حلب، قبل مغادرته إلى مصر: "أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم"، وجاء هذا الحديث بعد رحيل الزعيم أحمد الأسعد، حيث شهد لبنان مناحتَين، "إحداهما لفقيد الجنوب والأخرى للجنوب نفسه"، كما علّق جان عبيد في استعراضه لهذه المحاضرة.

وفقاً لما جاء في هذا التحقيق الصحافي، امتدح الوزراء الثمانية عشر دفاع رئيسهم عن شعار حكومته، وعبّروا عن إعجابهم الشديد بما ورد فيها. رأى هنري فرعون أنها محاضرة موفقة جداً. ورأى عثمان الدنا أنها واضحة وصريحة. وقال موريس الجميل: "تهانينا لدولة الرئيس على محاضرته القيّمة". وقال فؤاد غصن إن هذه المحاضرة هي "بالفعل شرح لشعار العهد والحكومة ومناهجهما". وقال بدرو ديب: "رائعة جداً، دولة الرئيس موفّق جداً في محاضرته هذه". في المقابل، قال ميشال الأسمر مؤسس "الندوة اللبنانية": "لي بعض الملاحظات العابرة على المحاضرة، لكن لا بأس بها، وهي شرح وتعليق وافيان لشعار الرئيس سلام". 

من جهته، ختم جان عبيد مقالته، كما بدأها، وتساءل من جديد: "ما الذي صنعته حكومة صائب سلام منذ تسعة أشهر حتى الآن لتجعل شعاره أكثر من كلمات براقة ذهبت مع الريح؟ سؤال لم يتمكّن الرئيس سلام ولا وزراؤه الثمانية عشر من الإجابة عنه جواباً شافياً مقنعاً، طالما تستمر جهود هؤلاء الثمانية عشر في الانصراف إلى النكاية، والتوزّع على نشر التحديات في ما بينهم. ويبقى الأمل الوحيد وهو ألا يجعلنا صائب سلام ننتظر تسعة أشهر أخرى لنوجّه إليه السؤال نفسه، وتجيبنا عليه نفس المرارة والخيبة، ونفس اللبنانات المتنافرة التي تحفل بها حكومته، ويرزح تحت وطأتها وكابوسها الواقع اللبناني الممزّق".