الحرب من وجهة نظر الأشياء

باسل ف. صالح
الإثنين   2022/05/02
ألم الأشياء الصغيرة
هل حاولنا قبل اليوم، تفكير فعل الحرب التي نعيش تفاصيلها ومآسيها، ليس من منطلق الحكومات ولا الرؤساء ولا الأنظمة، ليس من وجهة نظر الأطراف المتحاربة، ولا حتى من وجهة نظر الشرق أو الغرب، وحتمًا ليس من عقلنة مصالح الغازي ولا من واجب وحميّة مقاومته؟ هل حاولنا تفكير الحرب من منظور الموضوعات والأشياء والأدوات؟

وبالأشياء أعني التفاصيل، تلك التي تؤدي، رغمًا عنها، جزءاً أساسيًا من المشهد. لكنها الأشياء التي تقبع هناك، وبشكل أبدي، في الخلفية، بمثابة تحصيل الحاصل. وبالأشياء أعني العتاد أيضًا، الأدوات الصغيرة والكبيرة المستَخدَمة، تلك الراكنة هناك، من السجائر إلى المنافض إلى لمبات الإضاءة. من أجهزة اللاسلكي، إلى الدروع والطائرات، البوارج والجيبات، والصواريخ… الخ، وصولًا إلى تراب الطريق والغبار. وحتماً الرصاص، الكثير من الرصاص.

هل حاولنا التعمّق أكثر لنفكر الحرب من وجهة نظر دولاب "ناقلة الجند"، التي تتحمّل ثقل أجساد الجنود المكدسين فوق أثقال ضمائرهم؟ وصولًا إلى تفكيرها في تعب جنزير "الدبابة" من غلاظة القذائف، والرائحة الكريهة لفم فوهة المدفع… الخ؟

لنتخيل للحظة أن لهذه الأشياء، الأدوات، شعوراً كامناً لا نفقهه ولا نعلم عنه شيئًا نحن البشر. شعور لا ندركه، لا لشيء إلا ﻷنه عصي على فهمنا. لنتخيل أن للأشياء قدرة على السعادة والشعور بالألم، على الفرح والحزن، على خلاف ما بناه الإنسان من أيديولوجيات ونظريات وفلسفات ترى أنه الكائن الواعي الوحيد، وأنه الوحيد الذي صاحب ملَكة الشعور. فعلى الرغم مما طاول هذه الايديولوجيات من تعديلات، حين بدأنا الاعتراف، كجنس بشري، بشعورية الحيوان والنبات، إلا أننا لم نفكر، حتى اللحظة، ولم نعترف بشعور الأشياء.

لنعد قليلًا إلى الوراء، فلنفترض لوهلة أولى أن هذه ليست محض أدوات، أنها ليست متاعاً ولا أشياء. لنسمح لأنفسنا أن تحلّق قليلًا في فضاء المخيلة، فنفكر هذه الموضوعات ككائنات شعورية واعية ومدرِكة لذاتها، كائنات تلمس وتتذوق وتشعر وتسمع وترى وتكره وتحب. فنكسر، بذلك، التعريف الكلاسيكي للشيء بوصفه "اسماً لأي موجود ثابت متحقق يصحّ أن يُتصَّور ويُخبَر عنه"، ونحطم ايضًا الاعتراف الضمني الذي أهديناه ﻷنفسنا بوصفنا الكائنات التي تصادر كينونة هذه الأشياء، بوصفنا نستطيع التعبير عن هذه الأشياء بلساننا لا بلسانها.

لنتخيل أنفسنا الرصاص الذي يخترق جسم أحدهم أو إحداهن، طفلة أو جدة، جسم أرملة، جسم كهل يحتفظ بهدية صغيرة تنتظر يد حفيدته. أو لنفرض أننا صاروخ ستطلقه طائرة، وهو يدرك أنه سيهبط على منازل كائنات مثله لا رأي ولا علاقة لها بكل ما يجري، كائنات لا يُنظر إليها إلا بوصفها مجردة من كل شيء ليسهل هضم فعل قتلها. لنتخيل أن الصواريخ كائنات تشعر، ويحمل ضميرها وزر كافة الأثقال الممكنة لناحية قتل المدنيين والأبرياء، لناحية القضاء على المشهد بأكمله.

هي هذه التفاصيل التي تستدعي إعادة التفكير في لحظات الانهيار الكوني المدوي الذي نعيش على وقعه. أن نعيد الاتصال بكافة الأفكار والكائنات والأشياء، من خلال رحم لا قدرة لكل التكنولوجيات والعلوم على تخيله. أن نقلب المعادلة فلا نحسب الأدوات موضوعات ووسائل نستعين بها لإتمام أغراضنا. لنحاول أن نفسح لها في المجال للانضمام إلى الأطفال والنساء والكهول والرجال والنباتات، للانضمام إلى الحيوانات البرية منها والأليفة، إلى عناصر الهواء والتراب والماء والنار. لنحاول أن نساهم في قلب معادلة الإسراف والتسلط هذه، كأن نخاف على هذه الأشياء لا أن نخاف منها، كأن نحفظها ولا نفرط فيها، كأن ننقل الأشياء من كونها موضوعات نستعين بها لتحقيق اغراضنا، فنحولها لتنتقل من عالم الوسائل إلى عالم الغايات.