لا "صوت مفيداً" في "الجنوب3"

رشا الأطرش
الثلاثاء   2022/05/10
(غيتي)
كنا على مدخل بلدية باريس-15، وموظفة السفارة اللبنانية تسألنا، نحن الذين نقف في الطابور منذ أكثر من ساعة وبتنا الآن في مقدّمته، عن دوائر اقتراعنا، لتسرّع مرور مَن كانت أقلامهم أقل ازدحاماً في الطابق العلوي، وتستمهل المعنيين بالأقلام التي ما عادت المساحة كافية لاستيعاب اصطفافهم. وفي وقت واحد تقريباً، أجبنا، أنا والصبية إلى جانبي: بيروت الثانية/النبطية! ووجدت نفسي أحسدها. ليس لأنها مرّت قبلي إلى السلالم المفضية للطابق الأول حيث قلم اقتراعها، بل لأنها امتلكت فرصة التصويت في دائرة "الجنوب3" التي بدت لي بوضوح، منذ أسابيع، وكأنها لبنان كله، معضلته الكاملة، تحدّيه الشرس، المستحيل والممكن في آن، رزمة آماله وخيباته، مخاوفه وإحباطه وشرقطة جماله.

في بيروت الثانية، يجد كثيرون أنفسهم أمام أحجية لا تشبه إلا الحالة اللبنانية المريضة. بل المفترق الذي، يكفي أنه مطروح، ليَشعُرَ كلُّ مَن ضاقت به الحياة بحصار الأقدار الشقية... كل مَن ضاعت أمواله في المصارف وفقَد كرامته على أبواب المستشفيات، كل مَن انحدر تعليم أولاده وتقهقر إلى قاع العوز والذلّ والجوع بحَرفيّته، وانمسح بعض من عائلته ورزقه وحياته مع انمساح ثلث العاصمة في انفجار مرفئها.

ناخبون بيروتيون كثر، وجدوا أنفسهم محشورين في زاوية مُسنَّنة، بين المقاطعة الانهزامية والاستسلامية الكاملة والعقيمة، أو اختيار واحد من اقتراعين: "الصوت المفيد"، أو الصوت العقابي/الاحتجاجي/التغييري، في وجه رموز الهيمنة والاستقواء والفساد، الذين يريدون صكّ شرعية لقضم بيروت، يضيفونه إلى بهلوانيات وضع اليد.

المقاطعة ضرب من الخَبل. الصوت المفيد، إذن؟ أم الصوت التغييري؟... في وجه مَن نسف بيروت عن الخريطة الإقليمية والعربية لعواصم التعليم والجامعات والطبابة، التجارة والتبادل والابتكار، الثقافة والفنون والانفتاح والتنوع، الصحافة والنشر والحريات، أحلام الأفراد، وحتى الرخاء النسبي قبل أن يتبدّى وَهماً.

"الصوت المفيد" للمعارضة التقليدية، المكرّسة أصلاً في المنظومة، وقد زادها سعد الحريري شرذمة وبؤساً وسموماً؟ هل هذه يفيدها أي شيء بَعد، لتقوم من تحت الردم؟ أو يفيد البيروتيين؟ "الصوت المفيد"، أي الذي يُراكِم فوق عصبيات وغرائز وتعريف الذات بالضدّ من الآخر، أو بمظلومية النوع المذهبي. ومع ذلك، هو "المفيد" في وجه الأوقح، لصالح الأقل وقاحة ممّن يملكون فرصة أكبر للفوز وبالتالي ربما لبعض التصدي. أي المعارضة المنظومة في المنظومة، التي لا يُعوَّل عليها إلا من حلاوة الروح، لكنها لون رمادي باقٍ بالكاد في مشهد أسود، والآن مهددة بالزوال النهائي، وجَارٍ إسعافها في ربع الساعة الأخير.

"الصوت المفيد" التسووي المُعتلّ التيئيسي هذا؟ أم الصوت الذي يقول كفى، لن نجرّب المُجرَّب؟! الصوت العقابي للكل، الذي يريد صوتَه في البرلمان رغم القيود البائنة والخانقة على رقاب المؤسسات الدستورية كلها. لكنه مع ذلك يريد صدىً لصَوته في مجلسٍ هو آخِر ما يستطيع الإدلاء بصوته فيه: في تحقيقات المرفأ، في قانون الكابيتال كونترول، في جرائم مصرف لبنان وحاكمه، وجمعية المصرف ورئيسها، والتجار والمحتكرين والمهربين وسائر اللصوص والقَتَلة. الصوت العقابي الذي يعرف أنه ربما لا يُوصِل إلى البرلمان كتلة كاملة أو وازنة تمثّله ومصالحه وحقوقه، لكنه ملّ الترقيع وما عاد يثق في قدرة/نوايا تلك الوجوه المحنطة. بيروت الثانية بدت مُقلقة، حيث لا يُعرَف مَن سيُعاقِبُ فعلاً هذا الصوتُ العقابي، وبأي ثمن. لوهلةٍ، على الأقل لوهلة، حيّرت الكثير من أبنائها المخنوقين الكافرين بالمافيا والزعامات التقليدية، في الاغتراب وقريباً في الوطن، قبل أن يتخذوا خياراً.. علّه يكون على مستوى معاناتهم وانكساراتهم كبشرٍ مواطنين، لا كجماعة ولا كطائفة ولا كجمهور لأي كان. 

أما "الجنوب 3"، فتبدو ساحة معركة واضحة، بين الحق والظلام، بكل بساطة. الثنائيات بشعة في العادة، لكن ثنائية الأسود والأبيض في هذا الجنوب اليوم، مصدر فرح وأمل، ولو فقط لأنها موجودة وحاضرة وتستعد لمواجهة حقيقية. القتال هنا له طَعم خاص، نشوة، إحساس بالإرادة والقُدرة، ولو ليوم واحد هو يوم الانتخاب. هنا المعركة مباشرة، لا صوت "مفيداً" يميّع المجابهة أو يقوّضها. بل هو الصوت المفيد والعقابي والتغييري الواحد. معركة رأس برأس، مع كبار المصرفيين المسؤولين عن ضياع ودائع الناس والذين ما زالوا ينظّرون لتحميل المودعين خسائر أطماعهم وهندساتهم، مع المطلوبين بمذكرات توقيف في جريمة المرفأ المُحتمين بحصانات يريدون تجديدها الآن، مع جذور الفساد المتغلغلة في الدولة منذ عقود، مع قَتَلة وفاقئي عيون المتظاهرين بأسلحة مُحرّمة أمام بوابة مجلس نيابي يتم التعامل معه كمُلكية خاصة، مع الملفات التي يُلوَّح بها ولا تُفتح أبداً، مع مغارة وزارة المالية وحرّاسها، مع الإيديولوجيا والعصابة في لائحة واحدة... ومن ثم مع المليشيات، المنظّمة و"المُرتجلة"، التي تستخدم نيرانها وأولاد شوارعها، سياسياً ومعنوياً وعضلياً، في الداخل وفي المعركة الانتخابية، تجييشاً وضغطاً وترهيباً، أكثر مما تُصوّب على أي عدو خارجي أو حتى تحفظ الأمن المناطقي اليومي من اللصوص والمرتكبين وتجار المخدرات والبشر.

هي معركة مع الإفلاس، ليس فقط المالي والاجتماعي والفكري والسياسي، بل حتى الدعائي التشويهي البدائي، الطامح، بعناوين بالية ومكشوفة، إلى ضرب اللائحة المضادة "للثنائي"، فوضع فراس حمدان في بذلة عسكرية إسرائيلية، وجعل اليَساري علي مراد "مصرفياً"... على أساس أن المصرفي شتيمة، فيما المصرفي الفعلي هو مرشح لائحة السلطة نفسها التي تستنفر كل خيالها الفقير وإمكاناتها السامّة للدفاع عن بقائها المُميت لكل شيء وكل نَفْسٍ إلّاها. لكن السحر يرتدّ على الساحر، وتزداد اللائحة المناوئة للسلطة شعبيةً واحتماءً بتأييد المتعبين الذين وعوا خواء الطوائف والأحزاب المتحاصصة، ليس فقط في "الجنوب 3"، بل في لبنان كله حيثما وُجد مقهورون وضحايا.. بالملايين.