جبيل وميراثها في أوروبا

محمود الزيباوي
الثلاثاء   2022/05/10
تمثال الفرعون أوسركون، مع كتابة فينيقية تسمّي أليباعل، ملك جبيل، في القرن العاشر قبل الميلاد. متحف اللوفر.
تحت عنوان "بيبلوس واللوفر"، يفتتح المتحف الفرنسي العريق في 18 من الشهر الحالي معرضاً تعريفياً يسلّط الضوء على العلاقة التاريخية التي تربطه بمدينة جبيل، منذ أن شرع، وإلى يومنا هذا، في اقتناء قطع أثرية تعود إلى هذه المدينة. يستمرّ المعرض حتى 11 أيلول، ويمهّد لمعرض كبير يُفتتح في المتحف الوطني للآثار في مدينة لايدن الهولندية في 22 تشرين الأول.  


عُرفت جبيل بهذا الاسم منذ القدم، كما تشهد آية من سفر حزقيال في الكتاب المقدس، ترد في حديث عن مدينة صور: "شيوخ جبيل وحكماؤها كانوا فيك قلافوك. جميع سفن البحر وملاحوها كانوا فيك ليتاجروا بتجارتك" (27: 9). والقلافون هم الجلافطة، "ومفردها جلفاط، وهو من يسدّ حزوز السفينة"، كما يقول التفسير المعاصر. كذلك، عُرف سكان جبيل بالجبيليين، كما تشهد آية أخرى من سفر الملوك الأول، ترد في الحديث عن بناء هيكل سليمان على يد صانع ماهر من صور يُدعى حيرام: "وأمر الملك أن يقلعوا حجارة كبيرة، حجارة كريمة لتأسيس البيت، حجارة مربعة. فنحتها بناؤو سليمان، وبناؤو حيرام والجبليون (أي الجبيليون)، وهيأوا الأخشاب والحجارة لبناء البيت" (5: 17-18). في المقابل، أطلق الإغريق على جبيل اسم بيبلوس، وهذا الاسم مشتق من عبارة "ببليون" اليونانية، ومعناها "المدينة الأم للكتابة"، فجبيل كانت المصدر الرئيسي لتصدير أوراق البردي ولفائف الكتابة إلى العالم الهيليني. هكذا أعطت المدينة اسمها لمجموعة الكتب التي يضمّها الكتاب المقدس Bible.

حافظت جبيل على اسمها الأصلي في العالم العربي، كما تشهد كتب التراث، وهي في تعريف ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، في نهاية الحقبة العباسية: "بلد من سواحل دمشق في الإقليم الرابع، هو بلد مشهور في شرقي بيروت، على ثمانية فراسخ من بيروت، من فتوح يزيد بن أبي سفيان، وبقي بأيدي المسلمين إلى أن نزل عليه صنجيل الفرنجي"، وصنجيل الفرنجي هو ريمون دو تولوز، الذي عُرف كذلك بريمون دو سان جيل، وهو دوق الناربون الذي اشترك في الحملة الصليبية الأولى، وأسّس نواة ما عُرف بكونتية طرابلس. في "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة"، ذكر ابن شداد جبيل، وقال في وصفها: "وهي مدينة حسنة على البحر، لها سور من حجر حصين. وليس بها ماء جار. وإنما يشرب أهلها من الآبار"، ثم وصف انتقالها من الحكم المصري إلى حكم الفرنجة. قبله، ذكر الرحالة الفارسي جبيل في "سفر نامه"، وكتب في وصفها: "بلغنا مدينة جبيل، وهي مثلثة، تطل زاوية منها على البحر، ويحيطها سور حصين شاهق الارتفاع، وحولها النخيل وغيره من أشجار المناطق الحارة".

كذلك، ذكر الرحالة العبري، بنيامين التطيلي، جبيل، في كتابه، في زمن حكم الفرنجة، وقال في تعريفه بها: "هي بلدة جبال الواردة في التوراة، من أملاك بني عمون (أبي من نسل بن عمي، أحد أبناء لوط)، فيها نحو 150 يهوديا. ويحكم هذه المدينة سبعة من أمراء جنوة، يرأسهم الأمير يليان إمبرياكو. وفيها أطلال معابد بني عمون القديمة، حيث كانوا يعبدون صنماً يستوي على عرش من حجارة موشاة بالذهب، وحواليه عن اليمين وعن اليسار تمثالان لحوريتين، وأمامه مذبح لإحراق البخور وتقديم الأضاحي". ويشير هذا الكلام إلى مواقع أثرية نسبها الرحالة العبري إلى القدامى من العمونيين. تتغير هذه الصورة في زمن المماليك، كما يُستدل من قول القلقشندي في "صبح الأعشى" في حديثه عن سواحل الشام: "جبيل، وهي مدينة قديمة خراب".

خربت جبيل في زمن المماليك كما يبدو، وعمرت في زمن العثمانيين، غير أن المدينة القديمة بقيت في الظلمة إلى أن شرع العالم الألماني كارل ريتشارد ليبسيوس، في نشر كتابات ما يُعرف بألواح تل العمارنة المصرية في منتصف القرن التاسع عشر. حفظت هذه الألواح العديد من المراسلات، منها تلك المتبادلة بين حكام جبيل وكبار الفراعنة، وبدا أن المدينة كانت تابعة لمصر. في المقابل، في العام 1860 تحديداً، عهد نابليون الثالث إلى العالم الفرنسي إرنست رينان، مهمة إعداد تقرير حول المواقع الفينيقية الأثرية في "سوريا الكبرى". تواصلت أعمال الباحثين الفرنسيين على مدى سنتين في صور وصيدا وجبيل وأرواد، وصدر التقرير العلمي العام 1864 في مجلد موسوعي عنوانه "بعثة في فينيقية". قاد رينان أول حملة تنقيب علمية في جبيل، وشدّد على الطابع المصري للمدينة الفينيقية في تقريره الخاص بهذه الحملة.

بعد إرنست رينان، قاد العالم الفرنسي المتخصص في الآثار المصرية، بيار مونتي، حملة تنقيب أخرى في جبيل استمرت من 1921 إلى 1924، وكشفت هذه الحملة عن مجموعة كبيرة من الآثار، أشهرها من دون أي شك ناووس يُعرف باسم الملك أحيرام. وهذا الناووس قائم على أربعة أسود، وقد نقشت على جوانبه صُور تمثل مواكب جنائزية، إلى جانب ملك يتناول القرابين. استخدم هذا القبر الحجري أولاً لدفن شخصية بارزة، ومن ثم استخدمه الملك اتوبغل كنعش لوالده أحيرام ملك جبيل في القرن العاشر قبل الميلاد، كما تقول الكتابة الني ترافقه: "عمل هذا التابوت اتوبغل بن أحيرام ملك جبيل لأبيه كي يكون مقره الأبدي، إذا ظهر ملك، أو حاكم، أو قائد جيش أمام جُبَلْ (جبيل) وفتح التابوت، فلينكسر صولجانه، وليسقط عرش مملكته وليهرب السلام من جُبَلْ وليمحي ذكراه في الآخرة وإلى الأبد". تحتل هذه الكتابة مكانة كبيرة في علوم الدراسات الفينيقية، إذ انها تعتمد تسعة عشر حرفاً من أحرف الأبجدية الفينيقية الاثنين والعشرين، وتُعتبر من أقدم شواهد هذه الأبجدية في القرن العاشر قبل الميلاد.

بعد بيار مونتي، شرع العالم الفرنسي موريس دونا بدوره في التنقيب في جبيل منذ لبعام 1926 إلى العام 1973، وقادت هذه الحملات إلى التعريف بتاريخ جبيل القديم، الممتد من العصر الحجري الحديث، أي آخر عصور ما قبل التاريخ، إلى العصر الروماني. دخلت جبيل في العصر النحاسي حيث بدأ استخدام الأدوات المعدنية إلى جانب الأدوات الحجرية، كما تشهد بقايا قريتين، ومقبرة واسعة دُفن فيها الموتى في أوان خزفية، بعد طيّ الرجلين حتى تلامس الركبتان الذقن، وجرى تزويد هؤلاء الموتى بما سيحتاجونه في حياتهم الأخرى، من الأباريق والدنان والملاعق، إلى الخواتم والحلي، واللافت أن جرار بعض منهم ضمت خناجر نحاسيّة وخوذات حجرية، مما يشير إلى كونهم من المحاربين.

تبرز جبيل كمدينة تجارية من الطراز الرفيع منذ بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد، حيث ارتبطت بمصر منذ عهد الأسرة الفرعونيّة الأولى، وازدهرت تحت وصايتها على مدى عقود طويلة من الزمن، وأكبر شواهد هذا الرباط المتين معبد بعلة جبيل الذي بلغت شهرته الآفاق، حتى أن كبار الفراعنة كانوا يرسلون الأضاحي إليه، ومنهم خوفو وخفرع ومنقرع الذين حكموا في عهد الأسرة الرابعة من عصر الدولة القديمة. وتضم جبيل معبداً آخر، وهو معبد قرين بعلة جبيل الإلهي، ويُعرف بمعبد المسلات، وذلك لاحتوائه ثلاثين مسلة في بهوه. إلى جانب هذين المعبدين، تحضر المقابر الملكية التي خرجت منها مجموعة قيمة من اللقى تشهد لثراء المدينة وأهلها.

بعد المصريين، حلّ الأموريون القادمون من غرب بلاد الرافدين، وقد انصهروا في المجتمع الجبيلي، ولعبوا دوراً كبير في ازدهار اقتصادها. من الألفية الثانية قبل الميلاد إلى مطلع المرحلة الهلنستية، حافظت جبيل على ما يشبه الاستقلال الذاتي، وحكمها ملوك محليون وصلتنا أسماء زهاء ثلاثين منهم. قبل حضور الهلينيين مع الإسكندر الكبير، حضر الأشوريون والبابليون والفرس، وترك حضورهم أثره في جبيل، كما ترك العالم اليوناني أثره عن طريق جزيرتي كريت وقبرص، وترك العالم السوري أثره عن طريق مدينتي ماري وأوغاريت، غير أن الأثر المصري ظل الأقوى، كما رأى إرنست رينان منذ أن بدأ في استكشاف المدينة الأثرية.

شواهد هذا الأثر العميق عديدة، ولعلّ أشهرها، من محفوظات اللوفر، تمثال لاوسركون، ثاني ملوك مصر من الأسرة الثانية، اكتشف في العام 1881 في معبد بعلة جبل. يحمل هذا التمثال نقشين منفصلين وغير مرتبطين، أحدهما بالهيروغليفية والآخر بالخط الفينيقي. تسمّي الكتابة المصرية أوسروكون، وتسمّي الكتابة الفينيقية أليباعل، ملك جبيل، في القرن العاشر قبل الميلاد، زمن العصر الفينيقي الذهبي.