حين يغتسل العيد ببحر طرابلس

أسعد قطّان
الأحد   2022/05/01
غرافيتي في طرابلس(غيتي)
«سأقول صبّوني بحرف النون حيث تعبّ روحي سورة الرحمن في القرآن» (محمود درويش)
يأتي عيد الفطر حزيناً هذه السنة، كما الفصح الشرقيّ من قبله. كلاهما اغتسل بمياه الأبيض المتوسّط أمام بحر طرابلس، واغتسل بدماء الفقراء الذين هربوا من جهنّم، فابتلعتهم المياه. الذين قالوا إنّ المياه نقيض النار لم يفطنوا إلى أنّ ثمّة ماءً يضارع ألسنة اللهب المتراقصة على بوّابة جهنّم في قدرته على محق الوجود الإنسانيّ. جهنّم هذه بشّرنا بها حكّام لبنان قبل ردح من الزمن ليس ببعيد، ثمّ حوّلوها إلى حقيقة مرئيّة وملموسة. وهي اليوم تتّخذ شكل الماء الذي، كما في الأساطير الرافديّة القديمة، يهدّد العمران الإنسانيّ ويحوّل كلّ شيء إلى ركام.
 
الهاربون من جحيم طرابلس الفيحاء لن يأكلوا الفطر معنا هذه السنة. فهم نذروا للرحمن صوماً يمتدّ إلى الأفق اللازورديّ الذي يصير بين أيدينا الفارغة استعارةً للأبد. والممتطون صهوة زوارق الموت، والغارقون في عتمة المتوسّط الخضراء اللزجة، لن يكلّموا إنسيّاً بعد اليوم، كأنّ الكلمات الغوالي في سورة مريم تتجمّد في أجسادهم المنفوخة بالموج، وتستحضر القافية الرنّانة في سورة الرحمن: «كلّ من عليها فان، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام». 

هل من وقت للاستنكار في عيد الفطر الممزوج، هذه السنة، بمرارة الخلّ الذي تجرّعه المسيح على الصليب؟ هل من وقت للاحتجاج؟ هل من وقت للصراخ؟ لقد احتدمت النقمة في صدور الطرابلسيّين الصيد. لكنّهم، كعادتهم، أرقى من أن ينكأوا الجراح. عضّوا على جرحهم الجديد، وانتصبوا بواسق مثل أشجار الصنوبر، وتجلّدوا، لئلّا تتحوّل الكرامة إلى هباء منثور. فالآتي أعظم. والآتي الأعظم هو إسقاط هذه السلطة التي تحوّلت إلى وحش من فصيلة التماسيح لا تنفع معه الكلمات، ولا يجدي الصراخ. 

يحزنني الذين يستجدون «أغنياء» طرابلس كي «يصرفوا» على مدينتهم، وبعض هؤلاء المستجدين من الذين زجّوا أسماءهم في لوائح انتخابيّة بهدف دخول الندوة البرلمانيّة. تحزنني مثل هذه الأصوات، وتصيبني بالتقزّز. فطرابلس مسؤوليّة الدولة، أي مسؤوليّة الناس جميعاً، لأنّ هؤلاء يصنعون الدولة. طرابلس، أيّها السيّدات والسادة، لن تتسوّل من أغنيائها شيئاً، لا لأنّها تدرك أنّ معظمهم انتهازيّون وصوليّون تافهون فحسب، بل لأنّها أيضاً عروس ثورة ١٧ تشرين. هل نسيتم؟ ومن تزوّج الثورة، لا يستجدي عطاءً من قطّاع الطرق، ولو تدلّى الحرير من مقاعدهم وقطر الذهب من جيوبهم. قبل أن تعود طرابلس إلى الوطن، وإلى ذاتها، ثمّة عمليّة تغييريّة يجب أن تحصل في العقول أوّلاً، وهي انطلقت يوم انطلقت انتفاضة الشعب المجيدة قبل سنتين ونيّف في ساحات بيروت وطرابلس وصيدا وكفررمّان وتعلبايا. فصوّبوا البوصلة، أرجوكم. من يتوقّع من «زعامات» طرابلس شيئاً، أو من يعوّل على ولادة «زعامات» جديدة، فليذهب إلى الجحيم. ومن لا يعرف أين الجحيم، فليسأل المتنبّئين العارفين من أهل السلطة. فإمّا أن يعود منطق الدولة إلى طرابلس، وإلى البلد بأسره، وإمّا أن تندثر طرابلس، ويندثر معها الوطن. 

في عيد الفطر السعيد الحزين هذه السنة، تقول طرابلس لجلّاديها، الذين يجلدون البلد برمّته: «لم تنتهِ بعد قصّتي معكم أيّها الجلّادون. فإنّ للباطل جولة، وهذه الجولة أضحت قريبةً، وقريبةً جدّاً. والنصر صبر ساعة». 
وكلّ عيد وأنتم بخير…