ما وراء اليأس الأوكراني

محمود الزيباوي
الجمعة   2022/04/29
بربارة، من مجموعة مدينة سلوفيانسك.
يواصل الجيش الروسي عملياته العسكرية في إقليم دونباس، فيما يعمد الغرب إلى إمداد كييف بالمزيد من الأسلحة والعتاد الحربي والذخائر. يقع هذا الإقليم في جنوب شرقي أوكرانيا، ويضم جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية جمهورية لوغانسك الشعبية. أعلنت هاتان الجمهوريتان استقلالهما من طرف واحد في 2014، واعترفت روسيا بهذين الاستقلالين مؤخراً، أما أوكرانيا، فلا تزال تعتبر الجمهوريتين جزءًا من "الأراضي الأوكرانية المحتلة مؤقتًا" جراء التدخل العسكري الروسي.

اشتعلت الحرب في إقليم دونباس منذ العام 2014، وشهدت هدنة هشة عند توقيع ما يُعرف باتفاقية مينسك في شباط 2015. اجتمع زعماء دول "رباعية النورماندي" المؤلفة من روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا في العاصمة البيلاروسية، وعقدوا قمة، ووقعوا اتفاقية حملت اسم "مجموعة الإجراءات الخاصة بتنفيذ اتفاقات مينسك"، كما وقعت على هذه الاتفاقية مجموعة الاتصال الخاصة بتسوية النزاع في شرق أوكرانيا، وتضم هذه المجموعة ممثلين عن حكومة أوكرانيا وروسيا، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين المعلنتين ذاتياً في جنوب شرق أوكرانيا. بعدها، تبنّى مجلس الأمن الدولي قراراً يدعم هذا الاتفاق الذي نص على وقف النزاع وإعادة اندماج الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون داخل أوكرانيا، في مقابل مزيد من الحكم الذاتي في المنطقة، لكن هذه الاتفاقية لم تنفّذ بشكل كامل بحسب المراقبين.

عاصر المصور الفوتوغرافي الأوكراني، ألكسندر شيكمينيف، فصول هذا النزاع، ونقل صوره بعدسة فنية خلاقة، وانتشرت هذه الصور عالمياً بعدما نشرتها كبرى المؤسسات الصحافية العالمية، فباتت التعبير الأقوى والأكثر بلاغة عن هذا الصراع المستمر. عمل شيكمينيف في عهد بترو بوروشنكو الذي انتخب رئيسا لأوكرانيا في 2014، كما عمل في عهد فولوديمير زيلينسكي الذي شغل هذا المنصب في 2019، والتقط بعدسته المبدعة صوراً فردية تختزل حال مليون ونصف المليون مواطن شردتهم حرب دونباس، قبل اندلاع الحرب الكبرى في 2022. ولد هذا المصور العام 1969 في مدينة لوغانسك، عاصمة الإقليم الذي يحمل اسمها، وهو من أب روسي وأمّ أوكرانية. نشأ في مدينته، وبدأ مشواره الفني فيها، حيث أقام استديو متواضعاً في 1988، وشرع بالتقاط صور تمثل وجوهاً من عامة الناس في زمن انهيار الاتحاد السوفياتي ودخول البلاد في أزمة اقتصادية خانقة، معتمداً التقنيات الفوتوغرافية القديمة، لا الحديثة. في ذلك الزمن، استقلت أوكرانيا، وتمّ استبدال جوازات السفر السوفياتية بجوازات أوكرانية حديثة، وأوكلت بلدية لوغانسك المصور الشاب بتصوير من عجز عن القيام باستبدال جوازه القديم بسبب المرض، أو العجز، أو السن المتقدمة، أو الفقر. أنجز ألكسندر شيكمينيف هذه المهمة الرسمية، كما استغلّ هذه الفرصة، فالتقط صوراً حميمية تشهد لحال المدينة في هذه الحقبة، وبقيت هذه الصور في حوزته إلى أن كشف عنها بعد عشرين عاماً، ومعها بدأ في صعود سلّم الشهرة.

ترك المصوّر لوغانسك في 1997، واستقرّ في كييف حيث عمل كمصوّر ومحرّر في الصحافة، غير أنه واصل عمله التوثيقي الخاص، وواظب على التوجه إلى إقليم دونباس، والتقط مجموعة من الصور تمثّل عمال المناجم، وتُعتبر هذه المجموعة اليوم من أهم المجموعات التي أصدرها خلال حياته. كذلك، التقط المصوّر لقطات تمثل عامة الناس، من الفلاحين إلى الطلاب الفتيان، وحاز شهرة واسعة في موطنه بفضل هذه الصور، حيث حصد جائزة "مصوّر العام 2013". شهد ألكسندر شيكمينيف خراب دونباس في 2014، وجمع مجموعة من الصور التي التقطها في هذا الإقليم في كتابين، أولهما بعنوان "دومباس" وثانيهما بعنوان "صور بالأبيض والأسود"، واعتمد كعادته في كل هذه الصور آلة "روليفلكس"، وهي الآلة الفوتوغرافية التي اعتمدها كبار المصورين في القرن الماضي.

التقطت صور كتاب "دونباس" في مدينة سلوفيانسك، في مقاطعة دونيتسك، وتمثّل كل منها فرداً من أفراد هذه المدينة، ومنهم امرأة تدعى بربارة التقط لها شيكمينيف صورة وهي تحمل أيقونة للقديسة بربارة نجت من الخراب الذي أصاب الشقة التي تسكنها. وفي 2016، قصد المصوّر مدينة ميكوليفكا التي تبعد مسافة 15 كيلومتراً عن سلوفيانسك، وبحث عن الذين صوّرهم ليهدي إليهم صورهم، وعرف هناك أن بربارة توفيت، والتقى بالعديد ممن صورهم، ووصف حالهم في أكثر من حوار صحافي. في مقبرة ميكوليفكا، التقط المصوّر مجموعة بديعة من الصور تمثل شواهد القبور التي لم تسلم من الحرب، وهي صور بالأسود والأبيض كذلك، وتُعتبر من أجمل إنجازاته الفنية، مع العلم بأنها صور تمثل المقبرة فحسب، وتخلو من أي حضور بشري حي.

أقام ألكسندر شيكمينيف العديد من المعارض في أوكرانيا وليتوانيا وبولندا وسلوفاكيا، وكان له معرض في متحف الفن المعاصر في مدينة بيرم، في روسيا. قورنت أعماله بأعمال المصور الشهير أوغست ساندر، صاحب كتاب "وجوه من زمننا" الصادر في 1928، كما قيل عنه أنه بوشكين أوكراني يكتب أشعاره الاجتماعية بعدسة "روليفلكس". بطلب من ميستيتسكي أرسينال، وهي المؤسسة الثقافية العامة الرائدة، والمتحف، ومجمع المعارض الفنية في أوكرانيا، دخل المصوّر مستشفى كييف العسكري في العام 2014، والتقط صوراً للجنود الجرحي، معتمداً أسلوبه المعهود في التصوير. من هذه التجربة، خرجت مجموعة أخرى من الصور التوثيقية الفنية تشهد لحال أوكرانيا في زمن هذه الأهوال.

في خريف 2014، أقامت مؤسسة ميستيتسكي أرسينال معرضاً لألكسندر شيكمينيف حمل عنوان "ما وراء اليأس"، ضمّ صور الجنود الجرحى في مستشفى كييف العسكري، وصور أهالي مدينة سلوفيانسك الذين شهدوا خراب منازلهم في مدينتهم. ويشعر كل من يشاهد هذه الصور اليوم أنها التقطت حديثاً، أثناء الحرب الكبرى التي تدور رحاها منذ أكثر من شهرين.