فصح الروم على جبهة لوغانسك

أسعد قطّان
الأحد   2022/04/24
حدّق الجنديّ سيرغي ميخائيل ميخائيلوفيتش في الجبهة المترامية الأطراف. ثمّ كظم غصّةً في حلقه البارد، وسافر في أفكاره إلى قريته الصغيرة قرب كازان.
منذ أن التحق بالجبهة وآلام الحلق تعاوده كلّ صباح. لكنّها أخذت تشتدّ منذ الأحد الماضي. كاد ينسى أنّه أحد الشعانين لولا كلمات رفيقه ألكسندر المقتضبة: «كلّ عام وأنت بخير يا ميشا، إنّه أحد الشعانين اليوم». سمع في البعيد أصوات قهقهات، ثمّ انهالت القذائف.
 
لقد كذب الضابط السيبيريّ حين أكّد لهم أنّ الحرب ستنتهي قبل عيد الفصح. يومذاك، نظر سيرغي إلى سحنة الضابط ذي الصوت الأجشّ، وبذل كلّ ما في وسعه كي يصدّقه. كان يتمنّى في قرارة نفسه أن يرجع إلى كازان قبل الفصح، وأن يحتفل بجنّاز المسيح في قريته على ضفّة نهر كازانكا. لكنّه يعرف اليوم أنّ الضابط، الذي تُذكّر معالم وجهه بقائد مغوليّ من عصور غابرة، كذب عليهم. فالحرب ستطول، وربّما لن يرجع إلى قريته إلّا محمولاً في تابوت. 

غرق سيرغي، أو ميشا كما يسمّيه بعضهم، في ذكرياته. تذكّر حادثة غرق الطرّاد موسكفا قبل أيّام، ثمّ شعر بأنّ الجوّ المثقل برائحة البارود يكاد يصيبه بالغثيان. انتشر خبر غرق الطرّاد وموت أفراد طاقمه أمام شواطئ سيباستوبول كالنار في الهشيم، على الرغم من أنّ قائد الفصيلة لم ينبس ببنت شفة، والكلّ كان مقتصداً في الكلام، كأنّ الكلمات تحوّلت فجأةً  إلى سبائك من ذهب. سيرغي لم يرَ سيباستوبول قطّ، ولا يعرف منها سوى أخبار البطولات التي سطّرها بنو قومه هناك إبّان حرب القرم ضدّ الجيش العثمانيّ وحلفائه الأوروبيّين. الذين زاروا سيباستوبول قالوا إنّها رائعة الجمال. نقاتل اليوم هناك كما قاتلنا آنذاك. لا جديد تحت الشمس. لكنّ العدوّ ليس التركيّ، بل الأوكرانيّ. «لم ينجُ أحد من طاقم الطرّاد. ماتوا كلّهم كركّاب التيتانيك»، قال الرفيق فلاديمير وقد طفر الدمع من عينيه الزرقاوين. كان الوجوم يخيّم على الوجوه الصامتة كالنجوم، ودويّ انفجارات يُسمع في البعيد.

«لقد بدأ الهجوم الكبير الذي وعدنا به الأوكرانيّين»، همس في سرّه. يقول الضابط إنّنا سنستعيد ما لم نستعده بعد من لوغانسك في مدّة لا تتجاوز الأسبوعين، ونلقّن النازيّين الجدد درساً لن ينسوه. هل يكذب من جديد؟

لكنّ ميشا اليوم لا يتمنّى انتصارات جديدة، ولا هزائم جديدة بطبيعة الحال. ليته اليوم في البيت. ليته يستطيع الذهاب إلى الكنيسة كي يعاين المسيح قائماً من بين الأموات، وملتحفاً بالضياء كما يظهر في تلك الأيقونة التي يحبّها. ليته يستطيع أن يعانق أمّه آنّا وشقيقيه كيريل وأندراي ويرتشف معهم حساء الفصح الساخن بالسمك وشرائح البصل، هذا الذي اعتادت آنّا بريسكينوفا البيضاء أن تعدّه لأفراد عائلتها يوم قيامة الربّ. بعدها سيندسّ في القطار، ويذهب إلى كازان كي يشرب الفودكا مع بعض الأصحاب. وسيسمع أصدقاءه المسلمين يهتفون به: «خريستوس فاسكريسي، المسيح قام، يا ميشا العجوز».

حملق العسكريّ سيرغي ميخائيل ميخائيلوفيتش في الغيوم الرماديّة البليدة التي كانت تجتاز سماء إقليم لوغانسك صبيحة الفصح. «هل سيكون وقع الهجوم الكبير أسرع من هذه الغيوم؟»، طرح الجنديّ على نفسه هذا السؤال، ثمّ شعر بأنّ أوجاع الحلق تمتدّ إلى بلعومه مثل غيمة متثاقلة. كانت الغيوم لا تزال ترسم على صفحة السماء المعدنيّة أشكالاُ غريبةً لا أسماء لها ولا صفات…