حِكمَة الجمهور

فادي سعد
السبت   2022/04/16
بول كوزنسكي/ بولندا
قولٌ متداوَل لبيل غيتس، يلّخص بشكل جيد النبوءات التي بشّرتْ بالموت القريب للإعلام التقليدي (الصحف، المجلات، التلفزيون، الراديو): نبالغ عادةً في توقّع حجم التغييرات التي ستحصل بعد سنتين، وفي الوقت نفسه نستخفّ بحجم التغييرات التي يمكن أن تحصل بعد عشر سنوات. 

ما زال الكثير من الناس، حتى لحظة كتابة هذا المقال، يتابع أخبار العالم ويستقي معلوماته من وسائل الإعلام التقليدية. لكن ذلك التوجّه في تناقص مستمر، لحساب الإعلام البديل. ماذا نقصد بالإعلام البديل؟ موقع "يوتيوب" بقنواته المتنوعة؛ "فايسبوك" وما يقدّمه من معلومات وأخبار عبر خوارزمياته السريّة وصفحاته الإعلامية ومجموعاته ومواطنيه المنتشرين في أنحاء العالم؛ "تيك توك"؛ موقع "ريديت"؛ "تويتر"؛ المدوّنات الالكترونية؛ والبودكاست الصوتي... كل ما سبق يشكّل وحدات جيش الإعلام البديل الذي يحتلّ تدريجياً، وبنجاح، المزيد من وقت وانتباه ووعي المستهلك العصري في الألفية الثانية.

واضح أن الأمر يتعلّق هنا بانتشار الأنترنت، وانفجار الإعلام الرقمي. الرصاصات الأولى أُطلقَتْ في العام 2005 تقريباً، مع ظهور "يوتيوب"، وقبله بعام "فايسبوك". لكن مفهوم الإعلام البديل كمضاد للإعلام التقليدي، أقدم من هذا. بدأ في الستينيات والسعبينيات، عبر المطبوعات السريّة والمنشورات المضادة لوسائل إعلام الإستابلشمنت. الانترنت نقل الإعلام البديل من الهامش إلى المتن.

في السنوات العشرين الأخيرة، صرنا نأخذ بشكل متزايد، أخبارنا ومعلوماتنا، من هذا الإعلام البديل. إحصائيات مركز "بيو" الأميركي للدراسات والأبحاث، تؤكّد هذا التوجّه التدريجي. المستهلك في الغرب لم يعد يعتمد على وسائل الإعلام التقليدية كما السابق. ولا نحتاج إلى إحصائيات رسمية في العالم العربي. جميعنا باتت مصادر أخباره متنوعة، يشكّل الإعلام البديل قسماً كبيراً منها.

التقدم التكنولوجي والتطوّر الرقمي فرضا شروط التغيير ومساره. لم يكن هناك خيار آخر. بعد ظهور يوتيوب وفايسبوك، وبعدما أصبح معظم البشر قادرين على امتلاك ميكروفون وصوت ومدوّنة، كان لا بدّ أن تصل الأمور إلى هذا المفترق: وسائل إعلام تقليدية قديمة تترنّح وتحتضر، وإعلام بديل ينمو ويتضخّم ويتعقّد. انفجر عدد القنوات الإخبارية والعلمية والثقافية في يوتيوب (بالتوازي مع كل ما هو عكس ذلك طبعاً)، تكاثرت المدوّنات والبودكاستات. باتت المعلومة معلّقة في العراء على أسلاك الانترنت، وأصبحتْ وسائل التواصل الاجتماعي في أحيان كثيرة المصدر الأول للأخبار.

لم يعد الخبر يسقط علينا من خلف أسوار المؤسسات الإعلامية الكبرى، ولم تعد التحقيقات الصحافية تتدحرج من قمم صفحات الجرائد. شيء آخر بدأ من القاع. بات الجمهور هو أيضاً يصنع ويقدّم الأخبار. نشأ مفهوم "الصحافة التشاركية". لم يعد المواطن مجرّد متلقّ للمعلومة، بل بات مُشاركاً في تشكيلها. من رحم الإعلام البديل، انبثقت ظاهرة "صحافة المواطن" و"ثقافة المواطن" و"تحقيقات المواطن" و"الرأي العام للمواطن". حفرتْ هذه الظواهر المواطنية، خنادق تحت مباني الامبراطوريات الإعلامية، وكان على هذه الامبراطوريات أن تُغيّر من استراتيجياتها وتكتيكاتها وهوياتها كي تتأقلم. نموّ الإعلام البديل غيّر الإعلام التقليدي، وأحد وجوه هذا التغيير كان التطرّف السياسي الإعلامي للحفاظ على نسب مشاهدة أو قراءة مقبولة.

لنفكّر قليلاً في ما وصلنا إليه. ممكن الآن أن نتابع مدوّنة معارض في الصين، لنعرف ما يجري هناك أولاً بأول. لسنا بحاجة إلى "سي إن إن" لنرى ما يجري في سوريا أو أوكرانيا أو حتى كوريا الشمالية. وإذا أردنا الغوص في عالم "البودكاست" (المدونات الصوتية)، حيث يمكن لأي إنسان على الكرة الأرضية لديه انترنت وميكروفون أن يُسمعنا صوته، فسنكتشف عالماً آخر غنياً، من الآراء والأفكار ووجهات النظر الفكرية والسياسية والثقافية، لا يملك الإعلام التقليدي المساحة والوقت والبُنية لتقديمها. في الولايات المتحدة، يصل عدد مستمعي بودكاست "جو روغان" إلى 11 مليون مستمع، ومستمعي بودكاست "The Young Turks" اليساري إلى 5 ملايين. هذه الأرقام تضع قنوات "سي إن إن" و"فوكس نيوز" الإخباريتين في جيبها.

طبعاً، ليس كل شيء على ما يرام في هذا الإعلام البديل. هذا الانتقال من أعلى الهرم، حيث تُقدَّم المعلومة مُفلتَرةً من مؤسسات إعلامية معروفة ومحدودة، إلى قاعدة الهرم، حيث المصادر اللانهائية المفتوحة؛ هذا الانتقال له عيوبه ونواقصه. نسمع كثيراً عن المعلومات المضلّلة والأخبار الكاذبة والفوضى وعدم الاحترافية. لكن هل هذه العيوب كانت غائبة تماماً في الإعلام التقليدي بنموذجها الهرمي من أعلى إلى أسفل؟ نموذج الإعلام البديل من أسفل إلى أعلى (Bottom-Up) ليس مثالياً، لكنه الأقرب إلى طبيعة الحياة وطريقة تشكّلها منذ الكائنات الأولى وصولاً إلى الإنسان. الإعلام البديل دارويني الطابع. يمكن أن نؤمن بأن العالم تشكّل في سبعة أيام، لكن هذا يتطلّب الكثير من الإيمان الأعمى.

كل ما نعرفه الآن من الدراسات العلمية والاجتماعية أن نموذج "أسفل إلى أعلى" هو الذي يقف خلف نشوء الأنظمة المعقدة والحياة والإنسان والفكر. لماذا علينا استثناء طريقة التعاطي مع المعلومات والأخبار من ذلك النموذج؟ لنعد قليلاً إلى مشاكل المعلومات المضلّلة والكاذبة التي تصِم نموذج الإعلام البديل. لا أحد ينكر ذلك، لكن الخطأ والعشوائية ثم التصحيح الذاتي وإعادة التموضع والتعديل المضاد، هي من ديناميكيات نموذج "أسفل إلى أعلى". هل نتوقع أن نحصل على معلومة أدق إذا أُعطيَت لنا من قبل مؤسسة إعلامية ما، لها بالتأكيد انحيازاتها وأجنداتها؟ أم إذا حصلنا عليها بعد غربلتها من مئات المصادر والأشخاص بمحصلة نهائية تعكس الأكثر تواتراً والأقل تضارباً؟ بمعنى آخر، مَن قال إن المحصّلة الجماعية لانحيازات جمهور متنوع متباين، أقل دقة من انحياز مؤسسة إعلامية مفردة؟

لدى الجمهور حِكمة جماعية، هذا ما لاحظَه أولاً عالم الاجتماع المهووس بالأرقام وعلوم الإحصاء، الإنكليزي فرانسيس غالتون، العام 1906. في إحدى المنافسات في سوق عام لتخمين وزن ثور، شارك 800 شخص في المنافسة. جمع غالتون التخمينات الـ800، واحتسَب معدّلها الوسطي. كان المعدّل الوسطي للجمهور أقرب الأرقام إلى الوزن الحقيقي للثور، أقرب من التخمين الفردي الرابح. منذ ذلك الوقت، أصبحت ظاهرة "حكمة الجمهور" من المبادئ الأساسية المـُستعملة في الاستراتيجيات الاقتصادية والدعائية والاجتماعية. أشاع الصحافي الأميركي جيمس سيرويكي، ظاهرة "حكمة الجمهور" في الثقافة الشعبية، بعد نشر كتابه "حكمة الجماهير" العام 2004، حيث راجع دراسات تُثبت أن القرارات الجماعية لمجموعات كبيرة من البشر غير المتخصصّين في المجالات العلمية والنفسية والاقتصادية، تتفوّق على قرارات خبراء معدودين في المجالات نفسها.

وأينما التفت المرء، يجد حكمة الجمهور في وجهه. في الألعاب المعرفية، عندما يُعطى المتسابق خيار الاستعانة بالجمهور، تكون نسبة الإجابة الصحيحة 91% (أكثر من خيار الاستعانة بصديق خبير). البنتاغون يستعمل "حكمة الجمهور" لتحديد الكثير من أهدافه. قطعان النمل، استطاعت البقاء، مئات الملايين من السنين، بسبب قدرتها التنظيمية المبنية على "حكمة الجمهور" الجماعية. في الأدب، مراجعات الكتب لعدد كبير من القراء (Bottom-up reviews) أدق وأقل تحيّزاً من مراجعات الخبراء النقديين. وفي دراسة نشرتها مجلة Nature، العام 2005، قورنت دقة المعلومات في موسوعة "ويكيبيديا" (تحرير مفتوح من الجمهور) مع تلك الموجودة في موسوعة "بريتانيكا" (تحرير من قبل اختصاصيين محدودي العدد). في هذه الدراسة، تفوقّت في الدقة موسوعة الجمهور على موسوعة الخبراء.

سيستمر الإعلام البديل في النموّ. مسيرة التطوّر التي تبدأ من القاع تمتلك ديناميكيتها الخاصة التي يصعب إيقافها. ماذا سيحصل للإعلام التقليدي الحالي؟ موت الصحف التدريجي وتراجع الإمبراطوريات الإعلامية الكبرى لا يبشّر بالخير. ربّما ما سيحصل، كما حصل من قبل كثيراً، أن الإعلام البديل الآن سينتقل إلى المتن ويصبح تقليدياً في أيام مقبلة غير بعيدة جداً.