"لماذا الحرب؟": مراسلات أينشتاين وفرويد عن العنف والسلام

يارا نحلة
الجمعة   2022/03/11
فرويد وأينشتاين
في العام 1932، وقبل أشهر من اتخاذه قرار الفرار من ألمانيا التي ستدخل حكم النازية قريباً، انشغل عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين بأسئلةٍ حول الحرب ودوافعها الإنسانية، مدركاً أن إلمامه بقوانين الطبيعة والكون غير كافٍ لفهم الطبيعة البشرية، وأن موضوعه الفكري لا يمنحه القدرة على ولوج "الأماكن المظلمة من إرادة الإنسان وشعوره"، ويعمد أينشتاين الى الاستعانة بمفكرٍ آخر، هو صاحب الخبرة الأوسع في إضاءة خريطة اللاوعي ومساراتها الغرائزية. 
 
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يعود السؤال الذي طرحه أينشتاين، "هل من طريقة لتخليص البشرية من خطر الحرب؟". هذا السؤال افتتح به أينشتاين رسالته القلِقة الى عالِم النفس، سيغموند فرويد، داعياً إياه الى تبادل فكري حول مسببات الحرب وطرق تقويضها. وبعد تفنيد مقاربته للحرب وعواملها البنيوية والاقتصادية/السياسية، تمهيداً لطرح حلولٍ موضوعية وإجرائية لها، يلتمس أينشتاين فهماً من نوع آخر، هو فهم العوامل السيكولوجية التي تحرّك البشر، منذ الأزل، نحو العنف والعدوان. وعليه، يطرح أينشتاين سؤالاً أكثر تحديداً حول إمكانية "التحكم في تطور الإنسان الفكري لجعله محصناً ضدّ ذهان الكراهية والتدمير". بعبارة أخرى، لجأ أينشتاين إلى فرويد بحثاً عن معادلة علمية دقيقة تؤتي نتائج مضمونة لجهة انهاء العنف والحرب.

أما توجهه بهذا الاستفسار إلى فرويد بالذات، فهو بسبب تمتّع الأخير "بإحساسٍ راسخٍ في الواقع، لا يشوّهه التمني المتفائل والذي لا أساس له". كذلك، ليس العِلمُ الأرضية الوحيدة المشتركة بين المفكرين، إذ يجمعهما أيضاً ميلهما نحو السلام، على حدّ تعبير أينشتاين، بالاضافة الى هويتهما اليهودية التي جعلتهما موضع اضطهاد وملاحقة في زمنهما، انتهاءً بلجوء أينشتاين الى الولايات المتحدة وفرويد إلى بريطانيا.

من جهته، اقترح أينشتاين حلاً للإشكالية "السطحية" للنزاعات الدولية، وفق وصفه، وهي اشكالية من النوع "الإداري" الذي يستدعي إنشاء هيئة تشريعية وقضائية دولية تتولى تسوية جميع النزاعات بقوة القانون. كان ذلك قبل تأسيس منظمة الأمم المتحدة وإثباتها فشل هذا النموذج في ردع النزاعات والحروب، إلا أنّ أينشتاين كان يقظاً للثغرات التي تعتري نظريته. فثمة حقيقة علينا الأخذ بها، يقول أينشتاين، وهي أن "القانون والقوة يسيران جنباً الى جنب، والقرارات القضائية تلبّي تطلعات المجتمع إلى العدالة بقدر ما يتمتع هذا المجتمع بسلطة قادرة على فرض إحترام مُثُله القانونية". 

في إجابته، لفت فرويد الى أن هذه العلاقة بين الحق والقوة هي نقطة الانطلاق الأنسب لنقاشهما. لكن بالنسبة لمصطلح "قوّة"، يقترح استبداله بكلمة أشدّ وطأة ودلالةً هي "العنف"، مشيراً الى أنه "رغم التناقض الظاهر اليوم بين هذين المفهومين، إلا أنه من السهل اثبات أنّ أحدهما انحدر من الآخر". ويعرّف فرويد الحق (أي القانون) على أنه "قوة المجتمع"، وهذه القوة ليست سوى عنف، لكنها عنف من نوع خاص ومجاز؛ ذلك أنه يحمل شرعية الجماعة، أو بمعنى آخر تمرّد الغالبية المسحوقة على حكم الأقلية الطاغية.

عليه، يشرع فرويد في عرض المسار التطوري للعنف من نقطة بدايته، أي مملكة الحيوان، وصولاً إلى بناء الحضارات وإرساء القوانين. إلا أن العبور من العنف الخام إلى سيادة القانون المطلقة، والذي يستدعي توظيف أدوات عنفية إنما بطابع جماعي، يقتضي أولاً توافر شرط سيكولوجي؛ أن يكون اتحاد الغالبية مستقراً ودائماً. لكن هذا الاستقرار غير قابل للتحقيق، بسبب الخلل في موازين القوى التي تحكم كل مجموعة أو اتحاد، وذلك مردّه إلى التفاوتات الفطرية والمتأصلة في الطبيعة البشرية.
 
بهذه المقاربة، يجيب فرويد عن دهشة أينشتاين حيال "قدرة الأقلية المستفيدة من الحرب- أي صنّاع الأسلحة وتجارها- في ليّ إرادة الغالبية لتلبية طموحاتهم". فبالنسبة إلى فرويد، فإن التفاوت وعدم التكافؤ في امتلاك السلطة واستخدامها هو حقيقة غريزية، وهي لا تؤطر علاقة الأقلية الحاكمة بالغالبية التابعة فحسب، بل إنها عامل محرك لكافة العلاقات وديناميات التفاعل بين أعضاء المجتمع.

عند هذه القناعة، أي الحتمية الغريزية للصراع، كان من الممكن لفرويد أن ينهي أي نقاش حول امكانية وضع حد للحرب. لكن ذلك لم يثنه عن صياغة فرضيات محتملة حول طرق انهاء الحرب، ليعود ويدحضها الواحدة تلو الأخرى، مبيناً قصورها عن بلوغ حالة نهائية ومطلقة. ومن "ميثولوجيا" الغرائز، يستدل فرويد الى طريقة غير مباشرة للقضاء على العنف، وذلك عبر استحضار نقيضه الغريزي- إيروس- حافز الحياة والحب. لكن غريزة الموت والدمار تقف عائقاً أمام هذا المسعى. ففي الحروب، تحتلّ المثل والدوافع النبيلة مقدمة الوعي (مثل الوطنية، الدفاع عن النفس، حماية الأرض، الخ...)، بينما تسمتدّ قوتها وزخمها من الغرائز المدمّرة المحجوبة في اللاوعي.

غير أن افتقاد الصراع، أو الموضوع الخارجي للعنف، لا يعني بالضرورة تحييد الميل إلى العنف والتدمير، اذ يمكن لهذه الغريزة أن تتخذ اتجاهاً معاكساً وانطوائياً، محوّلة جام نشاطها وطاقتها إلى داخل الفرد. إن توظيف الطاقة العدوانية في الذات له تداعيات مرَضية على الفرد لا تقلّ وطأة عن آثار الحروب والنزاعات المسلحة، يحذّر فرويد.

لا يغفل مؤسس التحليل النفسي، قدرة العقل البشري على كبت الغرائز، وإليها ينسب تطور البشرية وبناء الحضارة. إلا أنه، في هذا الكبت، يكمن أيضاً أول أسباب قلق الحضارة، وبالتالي صراعاتها. وهنا يلفت فرويد إلى الخلل في نظرية البلاشفة الذين يزعمون أنهم قادرون على تجنب الحرب إلى الأبد عبر إشباع رغبات البشر. أولاً، وببساطة لأن الرغبات لا يمكن إشباعها الا بشكل مؤقت. وثانياً، لأن بعض هذه الرغبات يلتمس العنف.

إن كل الحلول المقترحة لإنهاء الحرب، يقول فرويد، مثل تكوين نخبة فكرية لقيادة الجماهير، أو توثيق الروابط الجماعية والتماثل/الانتماء بين أعضاء الجماعة -أو الجنس البشري على نطاق أوسع- هي حلول ممكنة نظرياً لكنها طوباوية بالكامل. "فهي مطاحن شديدة البطء، لن تبدأ بإنتاج الطحين إلى أن يكون الناس قد ماتوا جوعاً".