غرندايزر العربي

رشا الأطرش
الثلاثاء   2022/02/22

شيء من اللغة مات مع سامي كلارك. مع الصوت الذي غنّى "بطل فليد". "غرندايزر" العربي. أُعلنت وفاة رمز، رمق متبقٍّ من اللغة العربية، عندما كانت – طبيعياً وبلا استنهاض ولا خطة "قومية" – كامل العالم المتخيل لأطفال يُعدّون بمئات الملايين، كبروا سوية، مع العربية الفصحى، في عقد الثمانينات. كانت هذه قصائدنا المغنّاة، موشحات زمننا وجيلنا، بصُور وقصص لنا. بوابتنا على لغة عشقناها بلا جهد، التحمنا بها بلا قرار واعٍ. كلنا، بمن فينا ذلك الصبي في صف الأول متوسط، وأذكر كان اسمه "باسل". كره باسل حصة اللغة العربية، وكره الأستاذ (كان ثقيل الدم فعلاً)، ولم ينفك يردد مقولة أن "العرَب جرَب" كأي طفل يفضح انتماءات أهله السياسية، ثم يضحك كمُنتقم سرّي من أستاذ متقادم. حتى باسل كان متيماً بصيحات غرندايزر، يصدح بها و"حِمَماً يُرسل"، مقلّداً استلال "الرزة المزدوجة" مع الرفاق في الملعب، بفصاحةٍ لا أعرف كيف تغاضى عنها ذووه آنذاك، أو ربما أعرف... فالرسوم المتحركة بالفصحى لم تكن هوية ولا إطاراً، بل مُعطىً غير مُفكّر فيه، مُسلّماً به، من معطيات الطفولة وبداهة شاشتها الوحيدة.

لا يهم إن كان المارد الحديدي المقاتل، و"إنسانه" القائد، يابانيَي المنشأ. فقد كان البطل الخارق، في عيون الأطفال وآذانهم وضمائرهم، من العراق إلى المغرب، ومن لبنان إلى الجزائر، عربياً، من طرَفي قرنَيه اللامعَين إلى أخمص قدَميه الفولاذيتين. فأنت كناية عن منطوقك، و"غرندايزر" يستقوي بالعربية، يتألم بها، يخاف ويواجه الموت والشرور بمفرداتها وصيحاتها. "الصحن الدوار" و"الرشاش الصاهر" و"دوق فلييييد إنطلق!"، كل شقلباته ولَكماته وعدّته الخارقة، حتى اسمه "الأعجمي"، وهيئته المنتمية بامتياز إلى خطوط "الأنمي" التي لا ضاد فيها،.. كلها تلبّستها الدبلجة بالعربية الفصحى وأسبغت عليها شحنتها السمعية والعاطفية. مزرعته التي لا تشبه مزارع سوريا أو ليبيا أو الكويت، مقرّه بالِغ التطور التكنولوجي، كانت الحديقة الخلفية لتحولنا من أولاد إلى مراهقين. وهو كان كَليمَنا، مهما فعل وكيفما ظهر وأينما طار وتحرك.

اللغة تفعل هذه الأشياء. تستطيع خوارق وجدانية من دون عضلات. لكنها، في سياقات "غراندايزر" و"جونكر"، "ساندي بيل" و"بيل وسيباستان"، "جزيرة الكنز" و"ريمي"، "ساسوكي" و"هايدي"... لم تكن وحدها حين تجاوزت عشرات اللهجات العربية المحلية، التي لطالما شكلت عوائق تفاهم بين العرب أنفسهم. لم تنتصر اللغة بمفردها حينما صارت لغة الخيال واللعب، حتى خارج الأوقات المحددة حُكماً للتسمّر أمام التلفزيون.

ما زال رجال، كهول اليوم، حين ينخرطون مع أطفالهم في اختراع المغامرات، يفعلون ذلك بالفصحى، من دون تفكير وبتلقائية تبعث على الابتسام. هؤلاء الرجال، والنساء، الأربعينيون اليوم، أبناء عولمة مبكرة. عولمة العالم العربي القائمة، أيام "غرندايزر" سامي كلارك وجهاد الأطرش، وشخصيات وحيد جلال ووفاء طربيه وأنطوانيت ملوحي،.. على توسيع سوق الدبلجة التي تبوأ فيها لبنان الحرب الأهلية مكانة متقدّمة، من المحيط إلى الخليج، كل في تلفزيونه الوطني. رأسمالية عربية منمنمة، بلا أب معروف، والأرجح بلا تخطيط مسبق، مكللة بالترفيه، خلقت لغة عربية محبوبة كتحصيل حاصل. تسللت تحت جلودنا، خامرت ألعاب "فلنتظاهر بأننا...". صارت الصوت الداخلي العميق للتخييل، يداً بيد مع هرمونات النمو وأدرينالينه. فنجحت أكثر من معظم ما فُرض من تأميم وتعريب وعروبيات، وقطعاً تفوقت على مدرّسين ومدرّسات من زمن تربوي غابر. كنا، عملياً، مستهلكين للغة العربية، فدخلت في ما صنعنا من ذاكرة، مع عبوة "بيبسي" القديمة ومنتجات "نيستله"، جنباً إلى جنب مع "راس العبد" و"توتي فروتي" اللبنانيين. وليس كل استهلاك مكروه.

"افتح يا سمسم" كان خليجي الهوى، ومتخصصاً في التعليم، وما زال رائعاً، قِبلة الأهل الراغبين في تقوية أولادهم لغوياً، وبذلك هو خطة وقصد ومنهج. "غرندايزر" ورفاقه كانوا للجميع، ببساطة، ونكاد نقول ببراءة، تبدو اليوم مدهشة. مستورَدون، ليسوا لأحد، ولم يشبهوا مجتمعاً عربياً بعينه، فباتوا للجميع. "لغتهم" أصلاً لغة الكل بلا افتعال، وأضحت لصغارهم وجبة يومية لا رادَّ لها. حاول الممسكون بسوق المسلسلات المكسيكية، ثم التركية، استعادة تلك الظاهرة، بالفصحى، وباللهجات. لكن الكبار أمر آخر، علاقة أخرى بالمحتوى مهما تعلقوا به. والزمن أيضاً كان قد أمسى آخر أيضاً: فضائيات و"كابل"، والآن شبكات البث غبّ الطلب. عشق الكبار واستهلاكهم، نوع من الاستلاب، إدمان ربما. عشق الصغار، تعلّقهم بغرندايزر العربي، كان ارتباطاً عضوياً، كلُحمة "دايسكي" والروبوت و"دافعوا دافعوا حتى تفوزوا بالحب العظيم.. والخير عميم".