عبد الله ولد محمدي يؤرخ لشهود على زمن صحافي

بشير البكر
الإثنين   2022/12/05
عبد الله ولد محمدي، صحافي موريتاني متخصص في القارة الأفريقية منذ أكثر من ثلاثة عقود. ومنذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، شرع في شق طريق نحو دول الجوار الموريتاني، مستفيداً من مزايا عديدة. أولها حضور الموريتانيين والمغاربة في عالم التجارة داخل قارة أفريقيا منذ قرون، وثقلهم الكبير خصوصاً في السنغال. والميزة الثانية التي يتمتع بها ولد محمدي هي أنه ابن بيت فقه موريتاني، يتحدر من عائلة علماء شنقيط، وأقطاب في الطريقة التيجانية التي انتقلت من الجزائر والمغرب إلى بلدان أفريقيا، وقام بذلك التجار والرحالة، وصارت تشكل أهم طريقة صوفية في أفريقيا لجهة انتشارها. وحين قابلت الرئيس السنغالي ماكي صال، وأجريت معه حواراً العام 2016، كان ذلك بترتيب من ولد محمدي، الذي يحظى عند الرئيس بتقدير ومكانة تفوق صفة المستشار الخاص.

لمستُ في تلك الرحلة مدى قوة الصلات التي يتمتع بها ولد محمدي في السنغال التي تعد أهم دولة أفريقية، لجهة التأثير في بلدان القارة بفضل الخصوصية التي تمثلها وتجربتها الديموقراطية التي تعد عامل استقرار، ومرجعية مهمة في أفريقيا التي عانت الانقلابات العسكرية، والتدخل في شؤونها الداخلية ونهب ثرواتها. ويحظى ولد محمدي بتقدير في الأوساط الإعلامية، بفضل الدور الذي لعبه في التعريف بالقارة ونقل مشاكلها من خلال عمله طويلاً في صحيفة الشرق الأوسط وقناة الجزيرة، ووكالة الأنباء التي أسسها في داكار، وتعد أحد مصادر الخبر الأفريقي لوسائل الإعلام العربية.

التجربة الطويلة مكنت ولد محمدي من التعرف على أسماء صحافية عربية وأجنبية بارزة، كان لها دور ولمسة خاصة في صناعة الإعلام منذ منتصف الثمانينيات وحتى الآن، وعن هذه التجربة الثرية والنوعية أصدر كتاباً عن دار"المركز الثقافي للكتاب" في المغرب تحت عنوان "شهود زمن.. صداقات في دروب الصحافة"، ومن بين الذين روى علاقته بهم، والتأثير الذي تركوه في تجربته، روبرت فيسك، عثمان العمير، ساداموري، قصي صالح الدرويش، كيم أمور، بشير البكر، دومينيك دردا، عبد الوهاب بدرخان، سيدي الأمين، حبيب محفوظ، محمد بوخراز، مدير بلاندوليت، محمد الأشهب، عبد العزيز الدحماني، حاتم البطيوي.

وروى محمدي بعض القصص الصحافية والإنسانية، التي عاشها مع كل اسم من هذه الأسماء، وتوقف في مقدمة الكتاب عند الخطوات الأولى في هذا المهنة التي كانت قد بدأت تشهد تحولات مع ظهور "الفاكسميلي" والتلفزيون الفضائي.

الكتاب مزيج بين البورتريه والانطباعات والملاحظات الشخصية، وهو محاولة لتقديم هذه الوجوه التي لعبت ولا يزال بعضها يلعب دوراً مهماً في نهضة الإعلام العربي. فقد نقل بدايات وتجارب صغيرة أفضت إلى نجاحات كبيرة، وأراد من ذلك أن يوصل رسالة للجيل الجديد من الصحافيين عن مجموعة من الصحافيين كان لها دور تأسيسي، وشكلت نموذجاً يحتذى وقيمة مضافة، وما زال البعض منها حاضراً في المشهد، ولم تغير سرعة التكنولوجيا ولا تدفقها العالي روح الصحافة، فـ"القصة هي القصة مهما كان القالب الذي تأتي فيه". ويستشهد بقول الصحافي البريطاني الشهير روبرت فيسك، الذي يعد الصحافة وقوفاً على حافة التاريخ لتقديم شهادة غير متحيزة. ويضيء على أسلوب فيسك وطريقته الخاصة في الكتابة الصحافية التي تجعل من تغطيته لكل حدث سياسي عملاً قصصياً قائما بذاته، تتوافر فيه السمات الفنية للقصة الناجحة، كما حددها نقاد الأدب مثل وحدة الموضوع وكثافة الحدث ودراميته، هذا مع الأسلوب الشيق والسرد السلس الذي يأخذ بالقارئ ويقوده مختاراً إلى صلب القضية التي يعرضها على جمهوره من القراء، تاركاً لهم حرية التأويل واختيار الموقف السياسي والأخلاقي الذي يتماشى مع قناعاتهم.

وكان اللقاء الأول أثناء "عاصفة الصحراء" في الكويت العام 1991، والثاني في الجزائر العام 1995، والثالث العام 2003 اثناء زيارة المبعوث الدولي جيمس بيكر إلى مخيمات جبهة بوليساريو، وبعدها في دمشق العام 2008 على هامش القمة العربية. وفي المرة الأولى أثار غضب الجيش الأميركي، وفي الثانية أزعج بتغطياته السلطات الجزائرية في فترة العشرية السوداء، ذلك أنه استنتج "إن السلام الذي تحرسه الدبابات، ليس إلا لحظة استراحة المحارب". وفي كل رحلته الصحافية لم يكن هدف فيسك الإثارة والسبق الصحافي، بل أن يصبح راوية قصص لامع على حد قول زوجته الصحافية الأميركية لارا مارلو التي ألفت عنه كتاب "الحب في زمن الحرب".

وبعد روبرت فيسك، ينتقل ولد محمدي إلى تسجيل محطات من علاقته مع الصحافي السعودي عثمان العمير، والتي قامت على "قبول الخلاف كأساس وتجاوز الاختلاف"، وكان العمير فتح صفحات صحيفة الشرق الأوسط لولد محمدي ليشارك في أكبر المغامرات الصحافية في العالم العربي، وقت كانت تطبع من لندن وباريس ونيويورك والرياض والدار البيضاء والقاهرة وبيروت، وبعدما طلق الصحافة الورقية أسس صحيفة "إيلاف"، وكانت أول جريدة عربية الكترونية. ويروي ولد محمدي مسيرة طويلة مع العمير كأول رئيس للشرق الأوسط، والذي يشكل تجربة خاصة في هذه المهنة بفضل طموحه والإمكانات التي توافرت له.

وينتقل ولد محمدي بعد ذلك ليتحدث عن تعرفه على الصحافي الياباني ساداموري الذي يعمل في صحيفة "أساهي" التي تعد ثاني أكبر خمس صحف في اليابان من حيث التأثير والتوزيع بعد صحيفة "يوميوري". وقد حط هذا الصحافي رحاله في موريتانيا ليلتقي طلاب النصوص الشرعية واللغة العربية. وكان يبحث هناك عن خيط يوصله إلى قيادات تنظيم القاعدة، إلا أنه لم ينجح في ذلك، وخاب أمله حينما لم يجد من يؤيد أسامة بن لادن في فكره ومساره.

وينتقل ولد محمدي إلى الصحافي السوري الراحل قصي صالح الدرويش، الذي تعرف عليه في موريتانيا في حقبة ثمانينيات القرن الماضي، وكان منتدباً من مجلة "كل العرب" الأسبوعية الصادرة في باريس، وشكلت مدخله إلى دوائر السلطة العليا حين انتقل للعمل في الشرق الأوسط. ويقول إن فكرة الدرويش كانت أن يكتب كتاباً عن موريتانيا يغطي مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، ويكون التعريف بالرئيس حينذاك معاوية ولد الطائع فاتحة الكتاب الذي لم ير النور مع أن الدرويش تلقى مكافأة مجزية حسب اعترافه. ويقف عند رحيل الدرويش في الوقت الذي بدأ فيه مشروع "درويش برس" يتطور ويسير في الاتجاه الصحيح، والذي دفع به إلى اصدار مجلتين، الحدث وسينما.

ومن الدرويش إلى عبد الوهاب بدرخان الذي دفعه اهتمام والده بالسياسة وقراءة الصحف إلى دراسة الإعلام بعد الفشل في دراسة الطب في باريس الذي كانت تميل له الوالدة. واثناء الدراسة تدرب عبد الوهب في صحيفة النهار، وتطور بسرعة إلى صحافي تغطيات للأحداث سواء على جبهات القتال أو الاجتماعات السياسية، فضلاً عن أنشطة ذات طابع ثقافي اجتماعي. وبعد فترة وبفضل تفوقه، نال منحة للدراسة العليا في جامعة السوربون، واتيحت له فرصة العمل في مجلة "النهار العربي والدولي". لكن التجربة الأهم هي العمل في إعادة إصدار صحيفة الحياة من لندن العام 1988، حيث تم تقديم جريدة مختلفة وذات مصداقية.

وعلى هذا المنوال يحظى بقية الصحافيين بقدر موجز من التعريف، ويترك ولد محمدي للحكايات أن تتحدث عن التجارب، فهو أراد للكتاب أن يأتي في قالب حكاية عن المهنة والحياة، وكان له ذلك.